بسمارك على البسفور.. بقلم الباحث سونار جاغابتاي*

يواجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان معارضةً متجددة داخل البلاد، لكنه يحاول إظهار أنه لا يزال بإمكانه الفوز بالانتخابات وفي الوقت نفسه تحريض روسيا والولايات المتحدة وأوروبا على بعضها البعض.

غالباً ما تحتفظ شعوب الإمبراطوريات العظمى السابقة مثل تركيا وروسيا والصين والمملكة المتحدة بالاعتزاز بأمجادها السابقة، مما يجعلها مستعدةً للاستلهام أو عرضةً لتلاعُب السياسيين المهرة القادرين على تجسيد هذه السردية والارتكاز عليها. لذلك، من الضروري فهم أهمية تاريخ تركيا الإمبراطوري من أجل فهم تركيا الحديثة، إذ أن النظرة الرومانسية للإمبراطورية العثمانية المنهارة لا تزال ترسم آراء المواطنين الأتراك حول مكانتهم في العالم.

لنستهل الموضوع بالرئيس الحالي رجب طيب أردوغان الذي يتولى مقاليد السلطة منذ عام 2003. يُعدّ أردوغان، الذي فاز بثلاثة عشر اقتراعاً على مستوى البلاد، وعزز سلطته في تركيا على مدى عقدين من الزمن، الزعيم التركي الأكثر تأثيراً وقوةً في البلاد منذ مصطفى كمال أتاتورك الذي أسس تركيا الحديثة في عام 1923 من رماد الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى.

وأسّس الجنرال في الجيش العثماني أتاتورك دولة تركيا الحديثة وفقاً لرؤيته الخاصة كدولة أوروبية علمانية. فبعد أن أطاح بالسلاطين، حوّل وجه تركيا نحو الغرب. ومن خلال الاقتداء بالدول الأوروبية، وهي القوى العالمية العظمى في فن الحكم في حقبة ما بين الحربين العالميتين، كان أتاتورك يسعى إلى وضع تركيا على مسارٍ من شأنه أن يوصل البلاد إلى طاولة الدول العظمى، معتبراً أنه حقاً طبيعياً لتركيا.

وفرضت علمانية أتاتورك المستوحاة من التقاليد الأوروبية فصل الدين عن الحكومة والسياسة ونظام التعليم. وكان أتاتورك سياسياً متعنتاً أدار البلاد بقبضةٍ من حديد حتى وفاته في عام 1938، ليترك وراءه نظام حكمٍ علماني قائماً على مبادئه، والمعروف أيضاً باسم “الكمالية”.

وبعد أن أصبحت تركيا دولةٍ ديمقراطية متعددة الأحزاب في عام 1950، حافظ خلفاء أتاتورك المنتخبون ديمقراطياً على إرثهم العلماني طوال عقود. واعتقد الكماليون أن نظام أتاتورك السياسي هو نظامٌ أبديّ، ولا يجوز تغييره مع تغيُّر العالم.

حكم أتاتورك تركيا لمدة خمسة عشر عاماً، وهي فترة الحكم الأطول في تاريخ تركيا، إلى أن تسلّم أردوغان الحكم، حيث يحكم البلاد منذ تسعة عشر عاماً. ونجح في تدمير الكثير من إرث أتاتورك أو تعديله، كما عادت البلاد في عهده إلى أسلوب الحكم الاستبدادي. ومن المفارقات أنه يذكّرنا بوجه تركيا في عصر أتاتورك أكثر منه في أواخر القرن العشرين.

وباعتباره “أتاتورك الجديد”، أعاد أردوغان صياغة تركيا من الأعلى إلى الأسفل وفقاً لمبادئه الإسلامية إلى أبعد حدود والمحافِظة اجتماعياً. علاوةً على ذلك، لا تتطلّع “تركيا الجديدة” التي يبنيها أردوغان بصورةِ رئيسية إلى أوروبا أو الغرب، بل إلى الشرق الأوسط. فأردوغان يريد أن يرى أنقرة تنهض كقوةٍ عظمى مع المسلمين ومن خلال التأثير عليهم عبر الدول التي كانت خاضعةً لحكم تركيا العثمانية في الشرق الأوسط والبلقان.

في الأول من آذار/مارس 2022، أي بعد أسابيع فقط من شن موسكو حربها على أوكرانيا، أغلقت تركيا مضيق البوسفور أمام السفن البحرية الروسية والأوكرانية. واستند القرار إلى “اتفاقية مونترو” لعام 1936، والتي بموجبها تُعتبر تركيا حارس البوابة الوحيدة للبحر الأسود على المحيط المفتوح.

وللوهلة الأولى بدا الإغلاق كإجراءٍ محايدٍ يهدف إلى الحد من دخول المقاتلين من الطرفين إلى البحر الأسود والخروج منه. لكن الواقع كان القرار يستهدف روسيا بوضوح – في ذلك الوقت، كان لدى أوكرانيا سفينة بحرية واحدة وعدد قليل من زوارق الدوريات، وجميعها كانت متواجدة بالفعل في البحر الأسود، بينما تم نشر ما يقرب من نصف الأسطول الروسي المشترك بين البحر الأبيض المتوسط ​​والبحر الأسود (أكثر من أربعين سفينة) خارج المضيق.

ويتماشى هذا النهج مع سياسة تركيا الأوسع نطاقاً حول البحر الأسود، والتي يمكن وصفها بأنها “محايدة مؤيدة لأوكرانيا”. وعلى الرغم من أن أنقرة وموسكو هما القوتان العسكريتان الرئيسيتان في المنطقة، إلّا أن روسيا تبقى القوة الأكبر والعدو التاريخي لتركيا. وبالتالي، تنظر أنقرة إلى جميع الدول الساحلية الأخرى على أنها قوى موازنة لا غنى عنها ضد موسكو وستبذل جهوداً حثيثة لمنع كييف من الوقوع تحت سيطرة فلاديمير بوتين. وتشمل هذه الجهود بيع الطائرات المسيّرة إلى أوكرانيا وإنفاذ “اتفاقية مونترو” بصورةٍ “محايدة” بحيث تُؤثّر عملياً على تقويض الوجود البحري المحلي لروسيا.

ومع ذلك، حتى في دعمها العسكري لأوكرانيا، بقيت تركيا حريصةً على عدم تعريض علاقاتها الاقتصادية مع روسيا للخطر. فأردوغان على موعد قريب مع الانتخابات الوطنية في عام 2023، وهو في أمسّ الحاجة لتعزيز التجارة والسياحة مع موسكو من أجل فتح الاقتصاد التركي قبل الانتخابات بوقتٍ طويل.

ويحاول أردوغان أيضاً استقطاب المزيد من الاستثمارات الروسية المباشرة. فبعد اجتماعه مع بوتين في 5 آب/أغسطس، أرسلت موسكو حوالي 5 مليارات دولار إلى الشركة الروسية التي تتولى بناء محطة “أكويو” للطاقة النووية في جنوب تركيا لتسهيل عملها. وتميل هذه التحويلات وغيرها إلى إحداث أثرٍ تدريجي غير مباشر على الاقتصاد التركي، إذ تخفف من التضخم المفرط والمشاكل الأخرى. وباختصار، حاول أردوغان، وسط المعارضة المتزايدة في الداخل التركي، الموازنة بين تأييد أوكرانيا وتجنب اتخاذ موقفٍ علني مناهض لروسيا، وفي الوقت نفسه حماية المصالح الأمنية لتركيا في البحر الأسود ومصالحه السياسية الخاصة.

لذا يمكن القول إن أردوغان هو مثل بسمارك الحديث، فهو رجل دولة يوازن ببراعةٍ بين البلدان المجاورة له وخصومه. كما تقع تركيا وسط عدة مناطق صراع وقوى؛ ومع ذلك، فقد تمكّن من أن يكون وسيطاً رئيسياً قوياً، حيث تعتمد عليه معظم البلدان التي يتعامل معها.

فهل يستطيع “بسمارك تركيا” رجب طيب أردوغان أن يستمر في التلاعب بروسيا والولايات المتحدة وأوروبا وتحريضها على بعضها البعض، وحتى الفوز في انتخابات عام 2023، على الرغم من المعارضة الموحدة والمتجددة التي يواجهها مؤخراً؟ يكمن الجواب في حالة اقتصاد البلاد. فإذا انهار الاقتصاد وكان لا بدّ من نجدة تركيا مالياً، فإن “صندوق النقد الدولي”، الذي تحتفظ فيه الولايات المتحدة بالتصويت الذهبي، سيكون لديه الأموال اللازمة لإنقاذها. إلا أن هذه المساعدة ستقترن بشروطٍ على أنقرة وأردوغان.

من ناحيةٍ أخرى، إذا تدبّر الاقتصاد التركي أمره بفضل ضخ أموال جديدة من روسيا ودول الخليج الثرية، والتي يحاول أردوغان إعادة إرساء العلاقات معها، فقد يفوز أردوغان بفارق ضئيل في انتخابات عام 2023. ويمكنه أيضاً تبني المزيد من الإجراءات الاستبدادية – وفي الوقت نفسه – مضاعفة سياساته الشعبوية القومية التي تستهدف النساء ومجتمع المثليين والقوميين الأكراد والليبراليين واليساريين وغيرهم من الفئات الضعيفة والمعارضة عبر المجتمع التركي.

وبغض النظر عن الجانب الذي نتناول منه هذا الموضوع، ستكون انتخابات عام 2023 الأكثر أهمية تاريخياً في تركيا منذ أول تصويتٍ حر ونزيه شهدته البلاد في عام 1950.

*سونر چاغاپتاي هو زميل “باير فاميلي ومدير “برنامج الأبحاث التركية” في معهد واشنطن.

*المقال منشور على الموقع الألكتروني – معهد واشنطن

شاهد أيضاً

الرئيس أردوغان يحوّل “آيا صوفيا” إلى مسجد مجدداً، هل سيعزز ذلك شعبيته؟ بقلم سونر جاغابتاي*

بنى الإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس الأول "آيا صوفيا" ككاتدرائية مسيحية في عام 537. وفي عام 1453، حوّلها السلطان العثماني محمد الثاني إلى مسجد بعد فترة قصيرة من انتزاعه المدينة من البيزنطيين. وفي عام 1934، وبعد تفكك السلطنة العثمانية، حوّلت حكومة مصطفى كمال أتاتورك المبنى إلى متحف..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.