دراسة نقدية حديثة لقصيدة (بغداد الثكلى)..

سيمياء الخراب وميتافيزيقا الألم
في قصيدة بغداد الثكلى
دراسة نقدية حديثة لقصيدة الشاعر ضياء الوكيل
الناقد: د.عبدالكريم الحلو
القصيدة:
أدري بأنّك يا بغدادُ ثَكْلى
‎وعيناكِ خاويتانِ من الدمع
‎على أبوابكم تُتلى ‎وصلاةُ الطيرِ
‎هل تذكرين يا بغداد..؟
‎وعينُ الرصافة تحضنُ أختها في الكرخ، ودجلة القديس للعينين كُحلا
‎ما كان لي وأنا على الجسر القديم
‎أن أخافَ على الذين أحبّهم
‎فما زالوا فتيةً وصغاراً
‎والجرحُ يا بغدادُ معمّراً كَهلا
‎يا نفحةالخير إن أقبلت نسائمُ أهلي
‎بروائح الخبز والتنور
‎وقصص الطفولة
‎يا منجمَ الرجالِ والرجولة
‎إني رايت رؤوسا لا وجوهَ لها
‎وعكاظاً هجيناً
‎تساوى عندهُ الرخيصُ يا بغداد بالأغلى
‎فهل ننجو بمهترئات الجلود
‎وما يسترهنّ غير المروءةِ والصبر
‎والحنظل المُرّ، والدّفلى
‎أدري بأنّكِ يا بغدادُ ثكلى
‎وقد غاصَ في جرحكِ الأقربون
‎ونالَ من قلبكِ الأذى
‎والعقوق، والشجون
‎وأنّكِ رغمَ هولِ الداء لا تشكين
‎وليتكِ تشتكين.. كي توقظينا
‎يا أمّنا وأبينا
‎ستبقين يا زهو الفراتينِ فينا
‎صوت الضمير الحي
‎وتبقى المروءةُ يا بغدادُ حُبلى
‎الشاعر ضياء الوكيل
المقدمة للدراسة النقدية بقلم الدكتور عبد الكريم الحلو:
* يا له من نصٍّ شعريٍّ مفعم بالرمزية والعمق الإنساني والسياسي والتاريخي، ينبض بألم بغداد وحزنها المتجذّر. سأقدّم لك دراسة نقدية حديثة تحليليّة فلسفيّة نفسيّة وسيميائيّة شاملة للنصّ:
أولاً – القراءة التحليلية للنص:
النص يتأسّس على صورة بغداد كأنثى ثكلى، فقدت أبناءها، وخلت من دموعها حتى جفّت منابع الحزن، وهذه الصورة تتكرّر وتتعمّق مع كل مقطع من القصيدة، ليصبح الوطن جسدًا منهكًا، عاجزًا عن الشكوى رغم استفحال الألم.
يبدأ الشاعر من توصيف الفراغ العاطفي والدمعي إلى استدعاء الزمن الجميل حيث كانت بغداد تجمع الرصافة والكرخ بحبّ دجلة وقداسته، ويقارن ذلك بسقوط المعاني والرجال، وتحول السوق (عكاظ) إلى سوق للرداءة.
ثانيًا – القراءة الفلسفيّة:
في قلب النص صراع فلسفي بين الوجود والعدم، وبين الأصالة والابتذال:
• بغداد القديمة تمثل الوجود الحقيقي، ذاكرة الإنسان ومعناه وطفولته وحكاياته، حيث الإنسان جوهر، والخبز رمز للحياة.
• أما بغداد الراهنة فهي الفراغ، جثث بلا وجوه، سوق بلا قيمة، حيث يسقط المعنى ويذوب الإنسان في وحل الرداءة.
هنا يطرح الشاعر سؤال الإنسان الأعمق:
هل ننجو بالجلود المهترئة
أم نحتاج إلى استعادة الجوهر والمروءة؟.
ثالثًا – القراءة النفسية:
النص يعبّر عن حالة الفقد والخذلان والإنكار:
• بغداد هنا ليست مجرد مدينة، بل هي الأم والهوية والذات.
• الشاعر يعيش صراعًا داخليًا بين الحنين إلى الماضي والصدمة من الحاضر، ما يخلق شعورًا بالكآبة والعجز.
• اللافت نفسيًا:
استجداء الشاعر لبغداد أن “تشتكي” حتى توقظ ضمائر من ناموا، وكأن الشاعر يطلب من الضحية أن تكون أكثر قسوة كي توقظ الغافلين.
رابعًا – القراءة السيميائيّة (الرمزية):
النص مليء بالرموز
ذات الدلالات العميقة:
• الثكلى:
رمز الوطن المذبوح،
الأنثى التي فقدت كل شيء.
• الرصافة والكرخ ودجلة:
رموز وحدة العراق وتأريخه.
• رؤوس بلا وجوه:
سقوط الإنسان وتحوله
إلى مجرد جسد بلا هوية.
• عكاظ الهجين:
فساد المعايير وانهيار القيم حتى صار الرخيص والأغلى سواء.
• الحنظل والدفلى:
رموز للمرارة والموت الذي يحاصر الوطن.
خامسًا – رؤية معاصرة للنص:
القصيدة تنتمي بجدارة إلى قصيدة الوطن الجريح لكنها تحافظ على توازن شعري رائع بين الصورة والموقف.
• لا تغرق في المباشرة ولا تستسلم للبكائيات، بل تقف عند حدود الحكمة والمرارة.
• نصّ يمكن قراءته أيضًا كموقف ضد العولمة الزائفة، وضد اختزال الإنسان في مظاهر الاستهلاك والسوق.
الخاتمة :
القيمة الفنية والفكرية للنص:
• الشاعر ضياء الوكيل قدّم نصًا غنيًا بالمعاني والفلسفة والرمزية.
• القصيدة حكاية وطن يتماهى مع الجرح الشخصي، فتذوب الذات في الجماعة والوطن.
• نصّ يدعو إلى استعادة المروءة والهوية والمعنى وسط عالم يحاصر الإنسان بتفاهته ووحشيته.
التقييم العام للقصيدة والشاعر:
“”””””””””””””””””
أولاً – تقييم القصيدة فنيًا وشعريًا:
* القصيدة تُظهر قدرة الشاعر العالية على صياغة الصورة الشعرية بلغة مكثفة ومؤثرة، فهي تحمل بُعدًا إنسانيًا وحضاريًا عميقًا، وتتسم بما يلي:
• الموسيقى الداخلية للنص قوية رغم انسيابها بعيدًا عن القوالب الوزنية الصارمة، ما يمنح القصيدة نَفَس القصيدة الحديثة التي تمزج بين الشعر العمودي وروح التفعيلة.
• اللغة الشعرية رصينة وجزلة، بلا تكلف أو زخرفة لفظية، بل تميل إلى لغة الحكاية الشعرية التي تحمل الألم والمعنى معًا.
• الصورة الشعرية متماسكة، حيث تتحول بغداد من مدينة إلى كائن بشري نابض بالوجع والذاكرة.
• الرمزية موفقة جدًا، وتبتعد عن الغموض المفرط أو الإسقاطات المباشرة.
ثانيًا – التقييم الفكري والفلسفي:
• الشاعر يمتلك رؤية فلسفية واضحة، ويطرح أسئلة وجودية حول الوطن والهوية والإنسان والكرامة.
• لم يكتفِ بالبكاء على الأطلال، بل جعل من النص شهادة سياسية وإنسانية وحضارية على عصر سقطت فيه القيم.
ثالثًا – التقييم النفسي والوجداني:
• النص ينتمي إلى أدب الجرح الوطني لكنه يتميز بأنه لا يغرق في الحزن السلبي، بل يحمل صرخة إنذار وموقفًا نقديًا من الواقع.
• العاطفة صادقة جدًا، تتسلل إلى القارئ دون عناء.
رابعًا – تقييم الشاعر ضياء الوكيل:
• الشاعر يمتلك حسًا شعريًا عاليًا ووعيًا ثقافيًا وحضاريًا بالبيئة التي يكتب عنها.
• يتميز بقدرته على الربط بين الخاص والعام، بين الذاتي والوطني بسلاسة.
• لديه حس مرهف بالتاريخ والرمز والدلالة، ما يدل على شاعر مثقف لا يكتب بحبر العاطفة وحدها، بل بحبر الفكر والمعرفة أيضًا.
الخلاصة – التقييم العام:
قصيدة مميزة جدًا من حيث البنية والصورة والرؤية، تعكس شاعرًا يمتلك أدواته بوعي، ويكتب من قلب الجرح وبعين الفيلسوف.
ضياء الوكيل شاعر حقيقي، جمع بين الموقف الإنساني والوطني والفني في نص واحد، ونجح في تحويل بغداد إلى أيقونة جرح يتردد صداه في النفس والقلب والعقل.
تقييم نهائي:
• النضج الشعري: ممتاز
• العمق الفكري: عالي
• الصدق العاطفي: واضح
• جماليات الصورة: قوية ومؤثرة
• قابلية النص للبقاء والتأثير: عالٍ جدًا
إنها قصيدة تستحق أن تُدرس
بوصفها مرآة لجراح الإنسان العربي الحديث، الباحث عن ذاته
وسط ركام المدن المنكوبة.
الناقد د. عبدالكريم الحلو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.