ثقافة المنصب الحكومي.. بقلم مروان المعشّر ( تغيّر مفهوم منصب الخادم المدني فلم يعد منصباً يشغله المرء لخدمة الوطن، ولم يعد نجاحه يقاس بالأداء)

Jordan_parliament605-458277026_21

ثقافة المنصب الحكومي.. بقلم مروان المعشّر..

مروان المعشّر نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي، حيث يشرف على أبحاث المؤسسة في واشنطن وبيروت حول شؤون الشرق الأوسط. شغل منصبَي وزير الخارجية (2002-2004)، ونائب رئيس الوزراء (2004-2005) في الأردن، وشملت خبرته المهنية مجالات الدبلوماسية والتنمية والمجتمع المدني والاتصالات.

اختلفت ثقافة المنصب الحكومي في المجتمع الأردني منذ تأسيس الدولة الأردنية الحديثة العام 1921 وحتى يومنا هذا. ورافق تطور النظام الريعي، حيث الدولة هي المزود الرئيس للوظائف، تطور سلبي من نوع آخر، هو ثقافة المنصب الحكومي كوسيلة للوصول إلى الجاه والمركز الاجتماعي، بدلا من النظر إليه كأداة للخدمة العامة والمساهمة في بناء الدولة العصرية الحديثة.

ولم يعد مفهوم الخادم المدني (Civil Servant) قيمة تقدر فعلا لا قولا، سواء لدى قطاعات واسعة من المجتمع، أو لدى بعض -ولا أقول كل- من يتبوأ مناصب حكومية متقدمة. وتراجعت ثقة الناس في أن المنصب وسيلة لخدمة الوطن، وأصبحت النظرة له أنه هدف في حد ذاته. كما أصبح النجاح يقاس لدى البعض بقدر علو المنصب الحكومي، بغض النظر عن الأداء. أما النجاحات في مجالات أخرى؛ في القطاع الخاص أو الأكاديميا أو الفكر أو الفن أو غيرها، فجميعها تحظى بقدر أقل من الاحترام إن لم يرافق صاحبها لقب “معالي” أو “عطوفة” أو ما شابه.

 إضافة لذلك، تطور مفهوم آخر هو أن المنصب الحكومي لدى البعض أصبح حقا مكتسبا مدى الحياة؛ متى ما تبوأه شخص لمدة معينة، يتوقع أن الدولة مجبرة على إيجاد الوظائف والمناصب له أو لها إلى ما لانهاية، ما جعل البعض ينتظر منصبا حكوميا متقدما آخر، في اللحظة التي ينهي فيها خدمة معينة في منصب معين.

والأخطر، أن عينة واسعة من المجتمع باتت مقتنعة بظاهرة شجعتها الدولة في العديد من الأحيان، تتمثل في أن الوصول للمنصب الحكومي يمكن أن يمر عبر رفع سقف الانتقاد للحكومة إلى الحد الذي تضطر معه لإسكات صوت المنتقد عبر منحه موقعا ما. ووصلت الأمور إلى الحد الذي أصبح كل من يدلي بدلوه في الشأن العام -وخاصة إن كان الرأي مخالفا للمعهود، أو ليس ضمن سقوف ضمنية محددة- متهما بأن دافعه الأساس هو منصب حكومي، أما دافع تقديم الرأي من أجل الصالح العام، والصالح العام فقط، فلم يعد يحظى باقتناع جانب كبير من المجتمع.

هناك حاجة لإعادة النظر في مفهوم المنصب الحكومي. إذ حق، وربما واجب، على كل من تقلد منصبا حكوميا الإدلاء برأيه في الشأن العام؛ ليس ابتغاء لمنصب مستقبلي، ولكن لأن الخبرة التي اكتسبها أو اكتسبتها من خلال العمل من داخل الدولة، تتيح نظرة خاصة صقلتها التجربة من المفيد سماعها. هناك حاجة ملحة للابتعاد عن الثقافة السائدة اليوم بأن من تقلد مناصب عامة محكوم بعدم التعليق على السياسات العامة، لأن مبتغاه منصب مستقبلي، إذ من شأن هذا عدم الاستفادة من خبرات واسعة قد تسهم في كشف الثغرات والأخطاء ومحاولة إصلاحها.

يجب أن يكون غنيا عن القول إن المنصب الحكومي ليس مطوّبا لأي شخص مدى الحياة؛ فالتجديد مطلوب وضروري. ويجب أن يكون من البدهيات أن الطموح لا يجوز أن يقاس بالمنصب الحكومي فقط، بل إن نجاح المسؤولين السابقين خارج الحكومة دليل على الكفاءة لا العكس.

ليس كل من في المنصب يبتغي المصلحة الشخصية، وليس كل من خارجه يريد الوصول إليه. إن كان الصالح العام هو الهدف، يستطيع الجميع، من داخل وخارج الحكومة، الإسهام في تحقيقه. أما اللحظة التي يصبح فيها الكرسي هو الهدف في حد ذاته، فتتلون المواقف للمحافظة عليه أو الوصول إليه، بدلا من استهداف الصالح العام.

تم نشر هذا المقال في جريدة الغد.

شاهد أيضاً

حكمتُك يا رب.. بقلم ضياء الوكيل

أعرف أن أولادنا هم أبناءُ الحياةِ وبُنَاتِها، وهم رسائل حيّة نبعثها الى زمنٍ لن نراه، وإن كانوا معنا وهم فتيةٌ وصغار، فلهم حياتهم عندما يكبرون، وإنّها لحكمة عظيمة، وسنّة ما لها تبديل، حكمتك يا رب، وهي رحمة وسكينة..