من يتآمر على شيعة العراق؟ بقلم مشرق عباس

لن نتطرق إلى روايات آخر الزمان، التي وإن كانت مؤثرة في جوهر الرؤية لدى العديد من رجال الدين والسياسة الذين يشكلون ما يمكن أن يسمى الطبقة “المذهب ـ سياسية” المهيمنة على القرار في العراق، إلا أنها تتحرك في هامش المخاوف الجادة التي تسيطر على هذه الطبقة وتنسحب من الأطراف المتطرفة إلى المعتدلة فيها، حول وجود مؤامرة ما تدور ضد فكرة “حكم الشيعة” للعراق، وأن ما يدور في هذه الأثناء لا يخرج عن إرهاصات هذه المؤامرة.

خطورة هذه القناعة المتصاعدة، أنها تتكرس تدريجيا وبضغط “بروباغندا” إعلامية هائلة تستخدم فيها كل الأسلحة المتاحة للتأثير في القناعات ونشر الفوضى المفاهيمية مستندة إلى تاريخ الاضطهاد الشيعي، لتحاول إيجاد تصنيف للسكان الشيعة العراقيين أنفسهم، بين مقاومين لهذه المؤامرة الكونية، ومساهمين فيها، لذلك اتهمت معظم الطبقة “المذهب ـ سياسية” سرا أو علنا، التظاهرات الشبابية الأخيرة التي انطلقت في المدن الشيعية، بأنها أخطر حلقات “المؤامرة”، بعدما استخدم الأعداء الغامضون المؤامرة المذهبية والقومية ضد “حكم الشيعة” من خلال الممانعات “السنية” و”الكردية”، قبل الانتقال إلى “المؤامرة الإقليمية” على يد “الدول السنية” في المنطقة بإنتاج “القاعدة” و”داعش”، ومن ثم أصبحت مؤامرة “دولية ـ أميركية”، وانتهت أخيرا بتآمر الشيعة أنفسهم من خلال التأثير على طبقة الشباب للثورة على حكامهم الشيعة!.

واقع الحال، أن هذه المؤامرة المتخيلة، لم تكن متداولة في الأوساط السياسية والدينية الشيعية بهذه الفداحة، ويبدو أن تصاعد استخدامها مرتبط بعاملين متلازمين بالضرورة، أحدهما يخص حالة الاستياء الشعبي العام من فشل أحزاب الإسلام السياسي في تجربة إدارة الدولة وسقوطها في الفساد وانعدام الكفاءة والمحسوبيات التي أضعفت الحكم، والثانية تمثل الاستسلام للتماهي مع الخطاب الإيراني الذي يستند في جوهره إلى التعشيق المفاهيمي بين المظلوميات التاريخية والمؤامرة الكونية، والعجز عن إصدار نسخة خطاب عراقية داخلية.

ففي الأولى، يمثل إلقاء اللوم على تآمر الخارج والداخل، والغيبيات الغامضة، وعدم إيمان السكان، مسارا تقليديا لكل الحكام الذين فشلوا في إدارة بلدانهم، وهو المسار الذي لا يمكن تسويقه أبدا، فالحكم الحالي هو تجربة أميركية بالكامل إلى درجة أن فلسفة السياسي الراحل الذي أسس “البيت السياسي الشيعي” أحمد الجلبي كانت تتبنى نظرية التحالف الشيعي ـ الأميركي في المنطقة، والأميركيين رعوا هذه التجربة ودعموها طوال السنوات الماضية، ولا يبدو أنهم بمعرض التخلي عنها حتى وهم يلوحون بفرض عقوبات اقتصادية على العراق، والتي بدورها ستكون غطاء مثاليا لإتمام ألوان لوحة “المؤامرة” القاتمة.

وفي الثانية، فإن إيران قد تمتلك مبرراتها الخاصة لتبني سردية المؤامرة، التي لا تنطبق بالضرورة حتى على مستوى الفهم الفقهي والفلسفي، ناهيك عن السياسي والثقافي، على حال السرديات العراقية الكلاسيكية، فثمة من يرى أن العقوبات الاقتصادية ضد إيران يقابلها دعم دولي للعراق، والموقف الإقليمي من إيران يقابله انفتاح إقليمي للتعاون مع العراق، والنظرة إلى السياسة والدين والعلاقة بينهما تختلف في النجف عنها في قم، والجذور والخلفيات الثقافية والصيرورات الاجتماعية والديموغرافيا السياسية جميعها لا تدعم تبني العراقيين للرواية الإيرانية عن المؤامرة.

بالطبع.. هنالك حاجة إلى مصارحة حقيقية وصادمة بشأن ظروف وأسباب الاضطرابات العراقية الدامية منذ 2003، ومدى انسجامها مع فرضية “المؤامرة”، أو أنها تشكل سياقا طبيعيا للأخطاء السياسية المشتركة التي بدأت في واشنطن وبلغت ذروتها في بغداد.

وهذه المصارحة ضرورية لأنها هي الطريق الوحيد لإنهاء مرحلة والبدء بأخرى مختلفة في العراق، فهي التي يمكنها أن تجيب عن أسباب فشل تطبيق أنظمة “عدالة انتقالية”، وإنْ كانت كل التنظيمات المسلحة التي خرجت في العراق بطروحات مختلفة وانتهت إلى محرقة حرب أهلية مدمرة هي نتاج هذا الفشل، كما أن بإمكانها أنْ تجيب عن أسباب انهيار المنظومة الأمنية والعسكرية أمام تنظيم إرهابي كـ”داعش”، وفيما إذا كانت مؤامرة كونية، أم خطأ منهجيا في حسابات الحاكم الذي ورط العراق في تداعيات الأزمة السورية ونظام المحاور الإقليمية.

المصارحة وليس المؤامرة، يمكنها أن تجيب عن كل شيء حدث طوال 17 عشر عاما مضت، لأن التستر وانعدام الشفافية سمحا ببناء روايات متخيلة، وأحداث ومواقف مزورة، وأبطالا مزورين، كما أن المصارحة بإمكانها أن تفسر غدا فيما لو كانت العقوبات الأميركية التي يتم التلويح بها مجرد استمرار لـ”المؤامرة” ضد شيعة العراق، أم سياق طبيعي لفشل أصحاب القرار العراقي الحقيقي من أحزاب ومليشيات في إدارة العلاقات الدولية.

شاهد أيضاً

جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*

لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...