(فرض الشارع في لبنان نفسه على الطبقة السياسية التي تتخبط منذ فترة في عجزها وفشلها؛ فهل تمكّن من الإفلات من الكماشة الطائفية-الزبائنية (وإلى متى؟)…؟؟؟

People carry Lebanese national flags and banners as they take part in an anti-government protest at Martyrs' Square in downtown Beirut, Lebanon August 29, 2015. Thousands of protesters waving Lebanese flags and chanting "revolution" took to the streets of Beirut on Saturday for an unprecedented mobilisation against sectarian politicians they say are incompetent and corrupt. REUTERS/Mohamed Azakir

الشارع والسلطة الفاشلة في لبنان

(فرض الشارع في لبنان نفسه على الطبقة السياسية التي تتخبط منذ فترة في عجزها وفشلها؛ فهل تمكّن من الإفلات من الكماشة الطائفية-الزبائنية (وإلى متى؟)…؟؟؟

Saad-Kiwan-DW_0   سعد كيوان

فرض الشارع في لبنان نفسه على الطبقة السياسية التي تتخبط منذ فترة في عجزها وفشلها؛ تمكّن من الإفلات من الكماشة الطائفية-الزبائنية (إلى متى؟)، وراح، منذ أسابيع، يهشم هذه الطبقة التي لا تعني فقط الحكومة، وإنما خصوصاً زعماء الأحزاب والتيارات الطائفية والمذهبية الذين ابتدع لهم رئيس البرلمان المخضرم، نبيه بري، (يترأس المجلس منذ 23 سنة) “طاولة حوار” يجلسون حولها، أملاً باستعادة بعض من مصداقية.
رفع الشارع في وجه السياسيين شعار “طلعت ريحتكم”، استعارة لرائحة النفايات التي تكدست في شوارع بيروت منذ شهرين، وتحولت إلى أزمة سياسية ووطنية. ولم يوفر الحراك أي شتيمة، أو نعتاً، أو حتى بيضاً، إلا ورشقه على وجوه السياسيين الذين وقفوا عاجزين، شاهرين إفلاسهم عن إيجاد حل لرفع النفايات من الشوارع، فكيف بأزمة الكهرباء المزمنة ومئات ملايين الدولارات التي هُدرت عليها، وبشح المياه، وتفاقم البطالة، وغلاء المعيشة وهجرة الشباب وو… ناهيك عن روائح الفساد التي تفوح من الصفقات المتعددة، بما فيها تلزيم ملف النفايات نفسه.
لا يزال الشارع يمسك بالمبادرة، والمتظاهرون يطلقون الخطوة تلو الأخرى، وينظمون الاعتصامات المتنقلة أمام الوزارات، في ظل شللٍ شبه كامل للمؤسسات، بدءاً من الفراغ في رئاسة الجمهورية الذي يستمر منذ ستة عشر شهراً، ومجلس النواب الفاقد المصداقية نتيجة التمديد له منذ سنتين، ومعطل بفعل الخلاف على أولوية مشاريع القوانين، ونتيجة استعمال الفيتوات المذهبية المتبادلة، وأخيراً لا آخراً، الحكومة المشلولة بفعل الصراع القائم بين مكوناتها حول الصلاحيات والتعيينات، وإصرار زعيم التيار الوطني الحر، ميشال عون، على تعيين صهره قائداً للجيش، وغيرها من الملفات الشائكة الأخرى. ثم جاءت أزمة النفايات بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، مفجرة غضب اللبنانيين، وسط لهيب حر الصيف الاستثنائي.
يصر الشارع على تحركه، يتشعب ويتناسل، ليصبح مجموعات يفوق عددها العشرات، من “طلعت ريحتكم” إلى “بدنا نحاسب” مروراً بـ “الشعب يريد” و”عا الشارع” و”حلوا عنا” وغيرها… شباب في ربيع العمر مسلحون بأحقية المطالب، مشحونون بالحماس والاندفاع، وكذلك بنقمة وغضب صحيين على ما آلت إليه الأمور، بعد انتفاضة 14 مارس/آذار 2005 التي أخرجت الجيش السوري من لبنان، وأعادت الحرية والسيادة إلى اللبنانيين ودولتهم، لكنها لم تتمكن من فرض الإصلاح السياسي والاقتصادي الضروري والملح، ولا بطبيعة الحال تطهير الحياة السياسية من الفساد والفاسدين والانتهازيين، ومن الذين ما زالوا مرتبطين بنظام الوصاية السورية الذي بقي فاعلاً إلى حين انفجار الثورة ضد نظام بشار الأسد في 15 مارس/آذار 2011. واليوم، وبعد مضي عشر سنوات على “انتفاضة الاستقلال”، هناك شعور كبير بالخيبة والمرارة واليأس من إمكانية إحداث أي تغيير.
وفي الشارع، تكبر الأحلام، وتكثر الشعارات وتتعدد الأهداف والخطط وتتفاوت الأساليب، ويقوى الحشد ويتوسع، ويفوق قدرة الشباب على تنظيم الحراك وإدارته. فكانت أول تظاهرة في 22 أغسطس/آب الماضي التي فاجأت التوقعات، كون الشعارات التي رفعت استهدفت جميع السياسيين، والتي ذهبت إلى حد المطالبة بـ “إسقاط النظام”، وبطبيعة الحال الحكومة ورئيسها. وأشاعت مناخاً متعاطفاً في مختلف المناطق اللبنانية، ما أرعب الحكومة، وحمل الشباب إلى الاعتقاد أنهم أصبحوا قاب قوسين من انتفاضة شاملة. فراحوا يعدون العدة، لتظاهرة أكبر وأوسع، كانت فعلا حاشدة، وضمت في 29 أغسطس/آب عشرات الآلاف في ساحة الشهداء التي لم تشهد مثلها منذ سنوات.
كبر الحراك، وراح صوته يرتفع ضد السلطة السياسية، وبدأت النقمة تتسلل إلى شرائح كبيرة

الشباب المتظاهر يفتقد التجربة والحنكة، وينقصه قيادة واعية وبراغماتية، تحدد أهدافها بدقة، وتحسن الإدارة وإجادة فن التفاوض


ومتنوعة من اللبنانيين. ومع ذلك، لم يتمكن هذا الشارع من فرض أجندته على الرأي العام، وعلى الحكومة. فقد أظهر هؤلاء الشباب أنهم بحاجة إلى تجربة وحنكة، وتنقصهم، بشكل أساسي، قيادة واعية وبراغماتية، تحدد أهدافها بدقة، وتحسن الإدارة وإجادة فن التفاوض. فقد أهدر مطلقو حملة “طلعت ريحتكم”، منذ البداية، فرصة تحقيق أول انتصار جدي، عندما رفضوا بعد أول تظاهرة عَرض رئيس الحكومة عليهم التفاوض، واعترافه بوجود “نفايات سياسية” في السلطة. بدوا كمراهقين يبحثون عن بطولات شخصية، وتحقيق هزيمة كاملة بالضربة القاضية للطبقة السياسية، المتجذرة في السلطة منذ عشرات السنين، وبعدة شغل فتاكة، أهمها السلاح المذهبي.
ثم راحت المجموعات تفرخ الواحدة تلو الأخرى، فهذه تريد استقالة وزيري الداخلية والبيئة، وتلك الحكومة بأكملها، وأخرى ذهبت إلى حد طرح إسقاط النظام برمته. ولكن، هل يوجد نظام في لبنان؟ استقالة الحكومة تعني غرق لبنان في شلل وفوضى عارمة، إذ ليس هناك من إمكانية لتشكيل حكومة بديلة، في ظل الفراغ الرئاسي، لأن رئيس الجمهورية بحسب الدستور هو من يجري استشارات نيابية، لتكليف شخصية تقوم بتشكيل الحكومة. لذلك، يجب أن يكون المطلب الأساسي بعد أزمة النفايات بالضرورة انتخاب رئيس، ما يفرض عندها دستورياً استقالة الحكومة، ويفتح الباب أمام إمكانية فرض تجديد الطبقة السياسية أو تغييرها، عبر صناديق الاقتراع بعد وضع قانون انتخابي عادل، يعكس صحة التمثيل.
بدا أن الضياع وعدم وضوح الرؤية يسيطران على الحراك، فيما السلطة السياسية في المرصاد. شعارات وأهداف كبرى من دون طرح بدائل. ثم اتهامات لجميع السياسيين بالفساد، يتم التراجع عنها تحت الضغط والتهديد من بعض قوى السلطة التي تعتبر نفسها فوق أية شبهة. هل يعود ذلك إلى قلة خبرة في كيفية تحريك الشارع، وإلى عدم تحديد الهدف بدقة وواقعية فقط، أم تم خطف التحرك خلال الطريق، وجرت محاولة استيعابه وتجييره من قوى من خارج السلطة وداخلها، والتي دفع بعضها من وراء الكواليس إلى رفض أية عملية تفاوض، وتحقيق أي مكسب، ولو كان جزئياً، والذهاب إلى صدام ومواجهات مع القوى الأمنية. الهدف الأولي والأساسي للحراك هو مشكلة النفايات، فاضطرت الحكومة، تحت ضغط الشارع، أن تجد حلاً لرفعها أولاً من الشارع، وبالتالي، وضع خطة علمية متكاملة ومستدامة لها، لكن مجموعات الحراك رفضته، وتستمر بمعارضته. لماذا؟
نجح منظمو الحراك وشبابه في إبقاء تحركهم، بعيداً عن زواريب الطوائف والمذاهب، وهذا إنجاز يسجل لهم، إلا أنهم لم يستوعبوا، على ما يبدو، أن هناك من يريدهم أن يستمروا في تصعيدهم، ورفض أي عملية تفاوض حول المطالب الأخرى، بعد أن تحقق عملياً المطلب الأساسي الذي من أجله انتفضوا. وإن من يريدهم أن يستمروا في المواجهة هو من يريد، أولاً، أن يبقي هذا التحرك ضمن حدود معينة، خوفاً من مضاعفات الخرق الذي قد يحدثه داخل بعض التيارات المذهبية (تعديات “حركة أمل”على المعتصمين). وثانياً، أن يتم استعماله “عصا” مرفوعة في وجه خصومه السياسيين، بانتظار التسوية الإقليمية، أي تحويله إلى أداة في لعبة السلطة نفسها.
وإذا كان هدف هذا الحراك هو انتفاضة إصلاحية شاملة، فالأمر يتطلب نهجاً واستراتيجية مختلفين، ولا يصح عندها استثناء أي من الفاسدين، ولا حتى التمييز بين فاسد وآخر.
نقلا عن العرب الجديد

شاهد أيضاً

الثورة التكنولوجية الجديدة… بقلم عبد المنعم سعيد*

ليس صدفة أن شركات مثل «أمازون» أو «تسيلا» لم تعد تكتفي بالكرة الأرضية، فالأولى بدأت السعي لخلق محطة فضائية على سطح القمر، والأخرى بدأت في إنشاء سفن فضاء للسياحة خارج الأرض بين الكواكب..!!