عروبة بركات..!! بقلم عدنان حسين (جريدة المدى)

ربما كانت عروبة بركات في فراشها تغطّ في نوم عميق مطمئنة إلى أنّ ابنتها الصبيّة حلا (22 سنة) تنام هي الأخرى ملء جفونها منتظرة صباحاً جديداً تنطلق فيه إلى الحياة كما الفراشات في يوم ربيعي.
وربما كانت عروبة بركات قد صحت للتوّ من النوم ولم تبرح بعدُ فراشها وراحت تتأمل سقف الغرفة مستعيدة صورة وطنها، سوريا، ومدينتها إدلب، ومحلّقةً بعيداً في فضاء مُتخيَّل نظيف من آثار الحرب التي لم توفّر مدينة أو بلدة أو ضيعة أو جبلاً أو وادياً في بلادها.
وربما كانت عروبة بركات قد غادرت السرير وانهمكت في إعداد قهوة الصباح .. ربما كانت تُحضّر طعام الغداء أو العشاء…. ربما كانت تتابع أخبار التلفزيون… ربما وربما.
لابدّ أنّ عروبة بركات، الصحافية السورية المعارضة، كانت منغمرة في واحد من هذه الانشغالات عندما حدث طرق على باب شقتها في منطقة إسكوبار في القسم الآسيوي من مدينة إسطنبول التركية، لتفتح الباب فيتدفّق كالعاصفة الهوجاء عدة أشخاص مسلحين بالسكاكين ليذبحوها وابنتها الصبية المبتسمة للحياة والمبتسمة لها الحياة، فيتركوهما جثتين هامدتين غارقتين بالدم وبالمنظفات المنزلية التي أراد القتلة أن تغطي رائحتها على رائحة جريمتهم الشنيعة.
قالت وكالات الأنباء إنّ عروبة بركات وابنتها حلا قُتِلتا في “ظروف غامضة” يوم الجمعة، وليس ثمة غموض في الواقع.. الصحافية وابنتها قُتِلتا طعناً بالسكاكين، والقتلة لا يمكن أن يكونوا غير عملاء للنظام السوري، فلم تكن عروبة بركات عضواً في مافيا أو عصابة لتهريب البشر .. بكلّ بساطة كانت هي، وكذا ابنتها التي بعمر الفراشات، معارضة للنظام الذي دمّر سوريا بمثل ما دمّر به صدام حسين العراق.
عروبة بركات تعرّفتُ عليها أيام المنفى في سوريا، بالذات بعد اجتياح صدام الكويت مباشرة.. جمعتنا مهنة الصحافة .. كانت امرأة شجاعة لم تُخفِ أبداً معارضتها لنظام البعث .. كانت شجاعة حتى أنها رافقتنا إلى بيروت في مطلع 1991 لتغطي مؤتمر المعارضة العراقية الذي انعقد في العاصمة اللبنانية.. كانت شجاعة حتى أنها صحبتنا بعد ذلك بأيام في رحلة شاقة من دمشق إلى زاخو في كردستان العراق لتغطّي أحداث الانتفاضة، وربما كانت تحلم مثلنا بالوصول من هناك إلى بغداد المُحرَّرة من نظام صدام.
وصلنا صباحاً بالقطار إلى مدينة القامشلي في أقصى الشمال الشرقي من سوريا، ووقت العصر رتّب لنا مكتب الحزب الشيوعي العراقي أن نعبر نهر دجلة رفقة يونادم كنا (النائب الحالي) وعناصر من حركته (الديمقراطية الآشورية) وآخرين. عندما وصلنا إلى النهر وجدنا حركة العبور متوقّفة، فقوات الجيش العراقي كانت تقصف المكان .. بقينا ننتظر فترة هدوء لنعبر بقارب صغير بالكاد يستطيع مقاومة الجريان القوي والسريع لمياه دجلة.. عند منتصف الليل عبرنا النهر.. كانت عروبة معنا .. بدت سعيدة وهي تنتقل معنا إلى الضفة العراقية التي اكتشفنا أنّ السيارات لم تعد تصل إليها بسبب القصف، فتحتّم علينا أن نمشي لما يزيد على الساعة قبل أن تصادفنا سيارة للحزب الديمقراطي الكردستاني وتحملنا إلى زاخو.
كانت عروبة شجاعة فهي مشت معنا على قدميها، وإحداهما كان فيها عَوَق، حاملةً حقيبتها ..  في اليومين التاليين نشطت عروبة في التجوال وجمع المعلومات قبل أن تبدأ قوات النظام بمهاجمة دهوك ثم زاخو.. استمعت عروبة إلى نصيحتنا بالعودة إلى بلادها قبل وصول القوات العراقية، بعدما قررنا نحن الذين كنّا معها أن ننتقل إلى منطقة أخرى من كردستان (رانية) ونمشي على طريق الجلجلة الكردي إلى ما وراء الحدود.
عروبة بركات: لكِ المجد ولروحك السلام.

شاهد أيضاً

جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*

لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...