سيّد المجازفات … بقلم غسان شربل

news_image_file_11481

اعرف الخبثاء. سيكتبون وسيذهبون بعيداً. سيصف أحدهم جلسة البرلمان اللبناني اليوم بأنها حفلة لتوزيع السم، وإن اختلفت فيها المقادير. وسيشبّه الثاني جلسة انتخاب العماد ميشال عون بجلسة انتخاب بشير الجميل في 1982، مشيراً إلى اختلاف العاصفة الإقليمية التي حملت الرئيس. وسيكتب ثالث مقالاً بعنوان «احذروا هذا الرجل»، لافتاً إلى أن ليس من عادته أن يخسر وحده. وسيدبج رابع مقالة عن لحظة إعلان النتيجة. وسيرصد عيون نبيه بري وسعد الحريري وفؤاد السنيورة ووليد جنبلاط وسليمان فرنجية. وسيكتب خامس أن زعماء الكتل أسرفوا في إدمان الشغور الرئاسي ووجدوا أنفسهم فجأة أمام دواء وحيد وهو مرٌّ لكثيرين منهم، سواء جاهروا أو تكتموا. لنترك الخبثاء جانباً. ولنترك معهم حديث السم والدواء المرّ، آملين بألا نضطر إلى العودة إليه لاحقاً.

شاءت المهنة أن أواكب مسيرة الجنرال. حاورته رئيساً لحكومة عسكريين في قصر بلا رئيس هشمت القذائف زجاجه وجرحت هيبته. وحاورته في المنفى مظلوماً وعنيداً واثقاً من عودته. والتقيته لاحقاً رئيساً لكتلة نيابية كبيرة ينتظر بفارغ الصبر نهاية عهد الجنرال ميشال سليمان. وفي كل هذه المراحل كان عون مجازفاً كبيراً يملك سر الاتصال بجمهوره وتجديد الأمل لديه.

في تاريخ لبنان المستقل قصته غريبة وفريدة. يربح حين يربح. ويربح حين يخسر. أساء كثيرون تقدير قدرته على السباحة بين الألغام وتسجيل انعطافات غير مسبوقة مع تحاشي الغرق.

إنه سيد المجازفين في العقود الأخيرة. قالوا إنه جازف حين انخرط في حربين متكئاً على نصف حكومة عسكريين من لون واحد. وإنه جازف حين رفض عرض الأخضر الإبراهيمي أن يكون «صانع الرئيس» لا الرئيس. وحين فضل الخروج من القصر تحت ضربات جيش حافظ الأسد على الانحناء والخروج الهادئ. وقيل إنه جازف حين عاد وأبرم تفاهماً مع «حزب الله». وحين أعلن بوضوح «أنا في القصر أو لا أحد». وقال كثيرون إنه دواء مر يرفضه أخصامه ويسعى حلفاؤه ببراعة إلى تفاديه.

ها هو القصر يسقط اليوم في يده. هذه حقيقة، سواء أحببته أو كرهته. إنه رئيس مكتمل الشرعية. لن يدخل القصر على ظهر دبابة بل بتفويض نيابي واضح وقاطع. شرعيته الدستورية والوطنية كاملة. وشرعيته كاملة في المكون الذي ينتمي إليه وهي التي لم تبق للآخرين إلا خيار تأييده. يدخل القصر محمولاً على حصيلة مجازفات كثيرة. ويدخله محمولاً على حصيلة تفاهمات مع قوى تقرأ في قواميس مختلفة حين تتحدث عن لبنان وموقعه وتحالفاته. تأييد سمير جعجع له جعله عملياً مرشح المكون المسيحي، وهناك من يعتقد أن جعجع جازف. ولم يكن أمام سعد الحريري غير التخلي عن سليمان فرنجية وتبني ترشيح الجنرال، وهناك من يعتقد أنه جازف. ولم يكن أمام «حزب الله» غير الوفاء بوعده القديم، وهناك من يعتقد أنه جازف. وفضل جنبلاط الدواء المر على إيقاظ الحساسيات التاريخية في الجبل. نقطة الضعف الوحيدة أن الطبخة أُعدت من دون إشراك كبير الطهاة في نظام ما بعد الطائف، وهو نبيه بري، الذي لن يرتضي المكون الذي ينتمي إليه التفريط بدوره. لن يكون سهلاً إبرام تفاهم رابع مع بري لكنه يجب ألا يكون مستحيلاً.

مشكلة عون أنه يتولى الرئاسة في منطقة تتآكل فيها فكرة الدولة لمصلحة تجاذب المكونات والميليشيات. منطقة تعيش على نار فتنة مذهبية واختراقات إقليمية ودولية عاصفة. لا نهاية الحرب السورية قريبة ولا عودة «حزب الله» من دوره الإقليمي الجديد وشيكة.

مشكلة عون أن شعبيته أوسع بكثير من صلاحيات موقعه الجديد. والأمر نفسه بالنسبة إلى الآمال التي يعلقها عليه أنصاره. وأن ترتيب التعايش في نهجه، بين تفاهماته مع السيد حسن نصرالله وسعد الحريري وسمير جعجع، لن يكون بسيطاً. إنه يتولى رئاسة جمهورية متصدعة بسبب إبحار مكونيها الأكبر في اتجاهين متناقضين. وهي تنوء تحت أهوال الفساد والتهرؤ وتحت أعباء وجود أكثر من مليون لاجئ سوري لا يلوح في الأفق أن عودتهم قريبة.

ومشكلة خصوم عون، أنه لا يمكن الانتصار عليه من دون الانتصار على المكون الذي ينتمي إليه، خصوصاً إذا تمسك بتفاهمه مع جعجع. وأي محاولة لمحاصرته وإفشاله ستدفعه إلى الاستعانة بجمهوره، ما سيضع لبنان أمام أزمة مكونات تهدد الجمهورية والتركيبة معاً.

لا شك في أن الخطوة الأولى لفرملة اندفاعة «الرئيس القوي» ستتم عبر محاولة استنزافه تحت شعار استنزاف الحريري العائد هو الآخر إلى السرايا. محاولة الاستنزاف الأخرى ستتم عبر ضغوط وإغراءات لإبعاده عن جعجع حليفه الجديد وعدوه السابق. لا مصلحة للبلد في هذا الاستنزاف المبكر. ولتفاديه ممر إلزامي هو التفاهم مع بري، ما يساعد على تجنيب البلد حديث الثنائية المسيحية- السنية وأخطار التجاذب بين الثنائية الشيعية والثنائية المارونية.

لا يحتاج لبنان إلى «قائد تاريخي». تجربة المنطقة مع القادة التاريخيين كارثية. يحتاج لبنان رئيساً يعيد إطلاق الأمل بدولة تتسع لجميع أبنائها. أمل بالاستقرار وأمل بالازدهار. دولة لا تحتقر مواطنيها ولا تسمح للصوص المناجم بالاستمرار في نهب بقايا الوليمة.

شاهد أيضاً

جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*

لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...