بعد وقف استيراد الدواء المصري..من يحرّض أديس أبابا ضد القاهرة؟ بقلم عماد عنان*

الرئيس السيسي ورئيس أثيوبيا 1

الكاتب عماد عنان عماد عنان

لم يكن قرار أديس أبابا بتجميد استيراد الدواء المصري هو الأول من نوعه، ولن يكون الأخير، لاسيما إن وٌضع في الاعتبار الأبعاد الحقيقية وراء هذا القرار، والذي يعد حلقة جديدة من مسلسل الابتزاز الذي تمارسه أثيوبيا ضد مصر منذ عام 2011.

أديس أبابا لم تكن بالجرأة ولا الثقل السياسي الذي يدفعها لمناطحة القاهرة بهذه الصورة المتعنتة، فبعد الإصرار على إتمام بناء سد النهضة، رغم كل المحاولات المصرية لعرقلته، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، فضلا عن تجاهل كل الأنشطة الدبلوماسية القاهرية لتقريب وجهات النظر بين الجانبين، والعزف منفردا على إكمال المشروع، مهما كلف ذلك من تشويه للعلاقة مع أقدم دولة إفريقية، العديد من علامات الاستفهام تطرح نفسها حول  أبعاد هذا التوجه الأثيوبي المعادي لمصر، ومن يقف خلفه، وكيف سترد القاهرة عليه.

تجميد استيراد الدواء

تحتل صناعة وتجارة الدواء المرتبة الثانية في قائمة الصناعات الأهم على مستوى العالم بعد السلاح، فيبلغ حجم السوق العالمي للدواء حوالي 1.3 تريليون دولار، نصيب الشرق الأوسط منها حوالي 3% ،  تتصدره مصر التي يبلغ حجم النمو السنوي لسوق صناعة الدواء بها من  12-13%، وصل بنهاية الشهر الماضي إلي 36 مليار جنيه، مقارنة بـ٢٤ مليار جنيه في 2014.

القرار الأثيوبي بمنع استيراد الأدوية المصرية ليس الأول في هذا المجال، بل سبقه قرار أخر في 2014 بعدم استيراد أدوية منتجة عن 11شركة مصرية، وصفها الجانب الأثيوبي حينها بعدم مطابقتها للمواصفات القياسية، إلا أن القرار هذه المرة يمنع التعامل مع الأدوية المصرية بصورة عامة، وهو ما يمثل كارثة بكل المقاييس لصناعة الدواء في مصر.

من المعروف أن مصر تمتلك 140 مصنعا للدواء، وتصدر إنتاجها لما يقرب من 130 دولة، تعد إثيوبيا أكبرهم على الإطلاق، إذ تمثل وحدها 25% من قيمة صادرات مصر من الدواء، بما يعني أن الخسائر الناتجة عن هذا القرار الأخير ستمثل ربع موازنة الدواء المحلي، مما يعد جرس إنذار شديد اللهجة لصناعة الدواء في مصر.

الجانب الإثيوبي برر قراره الأخير بالاستناد إلى عدم تحقيق الدواء المصري لعدد من الاشتراطات الضرورية والهامة، والتي أعتبرها البعض واهية ولا يمكن التعويل عليها لاتخاذ مثل هذا القرار الكارثي، منها، عدم وجود محطات مياه مستقلة، وأن المصانع تقترب من الكتلة السكنية، وأخرى تعمل ماكيناتها منذ 15 عاما دون استبدال، بالإضافة إلى عدم وجود مراكز تكافؤ حيوي معتمدة دوليًا بما يضمن فاعلية وتصنيع عالي الجودة للدواء بالمواصفات الدولية، التي تشترطها منظمة الغذاء والدواء الأمريكية “FDA” بضمان مطابقة طرق التصنيع أو المادة الخام أو طرق التخزين للمواصفات القياسية العالمية.

كما تطرق القرار الإثيوبي إلى التشكيك في فاعلية المادة الخام للأدوية المصرية، لاسيما بعد انتشار العديد من الأدوية مجهولة المصدر – داخليا- وبأسعار مخفضة، مما تسبب في  تشويه سمعة الدواء المصري خارجيا، وهو ما نفاه تماما رئيس غرفة شعبة الدواء باتحاد الغرف التجارية، الدكتور علي عوف، والذي أكد على وجود بروتوكول بين جميع الدول يقر بضرورة مرور الدواء على معامل التحاليل بالبلد المستوردة؛ حتى يتم التأكد من سلامة المادة الفعالة، وإلا يتم منعه من دخول الأسواق نفسها.

عوف أشار  – في تصريحات صحفية –  إلى إرسال الدول المستوردة للدواء المصري تقارير تطالب بتعديل أمور تتضمن عملية إنتاج الأدوية داخل المصانع المصرية، وهو ما تستجيب له المصانع المصرية دون تردد، متابعا: «أصدرت إثيوبيا عام 2014 بعض الملاحظات على طريقة عمل عدد من المصانع، لكنها لم تتحدث عن سلامة المنتج الدوائي على الإطلاق، والغريب أنها لم ترسل التقرير لمصر حتى اليوم»، مؤكدا أن ما يتطلب ضرورة إغلاق المصانع هو عدد الميكروبات مثلا، أو وجود رطوبة عالية بالمصانع، ما يؤثر على كفاءة الدواء، وهو ما لم يتضمنه التقرير الإثيوبي.

صناعة الدواء أحد أكبرالصناعات في مصر

الغياب المصري

منذ محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في أديس أبابا في 1996م،  والعلاقات بين مصر والقارة الإفريقية دخلت نفقا مظلما، سلخ القاهرة تماما عن عمقها القاري، وهو ما دفعها للبحث عن عمق آخر، وحلفاء جدد، فتأرجحت بوصلة الخارجية المصرية مابين أوروبا والخليج.

وبالرغم من المحاولات المستميتة التي بذلتها دول القارة السمراء، لاسيما دول حوض النيل النيل، لاستعادة العلاقات الجيدة مع الشريك المصري، ي الخمس سنوات الأخيرة، إلا أنها باءت جميعا بالفشل، فتحولت القاهرة إلى الخليج، ولم تجد دول حوض النيل احن من تل أبيب للارتماء في أحضانها لاسيما بعد حزمة المساعدات التي أعلنت عن تقديمها لهذه الدول بما يعوضها عن الانسحاب المصري من المشهد تماما، ومن هنا كانت الكارثة.

الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها مصر في العقد الأخير، دفعتها للبحث عن مصادر تمويل جديدة، وفرص استثمارية متنوعة، دون الاهتمام بأبعاد الأمن القومي إفريقيا، وهو ما اعتبره البعض خيانة مكتملة الأركان للدبلوماسية المصرية والقائمين عليها، والتي آثرت الحصول على حفنة من أموال الخليج واستثمارات أوروبا على حساب أمنها القومي الجنوبي، خاصة وأن به شريانها المائي الوحيد، والذي بات الآن تحت السيطرة الكاملة لدولة اعتبرتها القاهرة ” معادية ” في كثير من خطاباتها السياسية والإعلامية.

وبالرغم من سطحية الأسباب التي ساقها الجانب الإثيوبي لتبرير قراره بتجميد استيراد الدواء المصري، إلا أن للقرار بعدا أخر، لا علاقة له بتقنية صناعة الدواء، وهو ما أجمع عليه الخبراء ممن وصفوه بـ “المسيس”، الرامي إلى إخضاع القاهرة للابتزاز مرة أخرى.

الضغط الممارس على القاهرة من الجانب الإثيوبي، سواء عن طريق تمرير مشروع سد النهضة ابتداء، أو قرار تجميد استيراد الأدوية المصرية الأن، يضع العديد من علامات الاستفهام حول الجهة التي تقف خلف هذه القرارات التآمرية، التي تستهدف سيادة مصر واستقلال قرارها السياسي، إلا أن جميع أصابع الاتهام تشير صوب كيان واحد، يلعب على جميع الأطراف، لا يؤمن بأخلاقيات السياسة، ولا يعرف شيئا عن شرف الخصومة…

سد النهضة الأثيوبي

فتش عن إسرائيل

جاءت زيارة رئيس الوزراء الصهيوني “بنيامين نتنياهو” لأربعة من دول حوض النيل بداية هذا الشهر لتضع العديد من علامات الاستفهام حول الأهداف التي يسعى لتحقيقها من وراء هذه الزيارة وغيرها من الزيارات السابقة، وهو ما اتضح فيما بعد من خلال نتائج هذه الزيارة، كان في مقدمتها الإعلان الأثيوبي عن إتمام بناء سد النهضة دون الاعتبار للموقف المصري، كذلك استجابة غينيا للضغط الصهيوني، واستعادة نشاطها الدبلوماسي مع تل أبيب بعد قطيعة دامت لعقود طويلة منذ 1967.

وبالرغم من قدم التواجد الصهيوني في إثيوبيا والذي يعود إلى ستينات القرن الماضي، حين أقدمت تل أبيب على الحضور المبكر لها في القارة الإفريقية من خلال إرسال خبرائها في مجال الاقتصاد والأمن والزراعة والاتصالات، فضلاً عن تدشين سفارتها التي تعد الأضخم بين سفارات تل أبيب بعد سفارتها في الولايات المتحدة الأمريكية، بحسب مركز القدس للدراسات السياسية، إلا أن البداية الفعلية للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين تعود إلى 1989، حيث زيارة رئيس وزراء إثيوبيا حينها إلى تل أبيب، ثم زيارة وزير خارجية إثيوبيا 2003، أعقبها الزيارة التاريخية لوزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، سيلفان شالوم إلى أديس أبابا في 2004، برفقة وفد اقتصادي مكون من 22 شخصية اقتصادية إسرائيلية معروفة، لتعلن بموجبها تل أبيب نيتها تطوير الصناعة والزراعة الإثيوبية عن طريق استخدام التكنولوجيا الزراعية التي تفتقر إليها إثيوبيا، بالرغم من وجود أراضي وثروة مائية كبيرة في أديس أبابا لكنها غير مستغلة بحسب مراقبين في هذه الآونة.

استمرت العلاقات الصهيونية – الإثيوبية على هذا المنوال من الاستقرار والإيجابية إلا عام 2012، حيث أعلنت تل أبيب حينها عن إستراتيجية جديدة داخل القارة الإفريقية تسمح لها بالسيطرة الكاملة على القرار السياسي الإفريقي من خلال الدعم غير المسبوق، والتبني المطلق لمشروعات التنمية في هذه الدول، خاصة منطقة حوض النيل والتي تمثل لتل أبيب مكانة محورية مقارنة بالدول الأخرى داخل القارة.

زيارة نتيناهو الأخيرة لدول حوض النيل

وبالرغم من الأهداف المعلنة للتواجد الصهيوني في القارة والتي تتمحور في بناء شراكة اقتصادية، والبحث عن فرص استثمارية بين الجانبين، إلا أن الملف المائي الخاص بنهر النيل، لاشك وأنه يمثل أحد أبرز الدوافع وراء تقوية تل أبيب علاقتها بإثيوبيا، وهذا يحقق لها هدفين كلاهما مرتبط بالآخر، الأول هو ضمان الوفرة المائية القادمة من إثيوبيا إلى تل أبيب عبر عدة منافذ، ثانيًا الضغط على القرار السياسي للقاهرة بما يصب في صالح الكيان الصهيوني، والذي ظهر جليا في الموقفين الأخيرين، الأول: التعنت في مفاوضات بناء سد النهضة والتصميم على المضي قدما دون أدنى اهتمام لرد فعل القاهرة، الثاني: خنق الاقتصاد المصري بتكبيده خسائر هائلة في أكبر صناعاته ألا وهي صناعة الدواء.

أديس أبابا الضعيفة والتي دوما ما كانت تعزف على وتر مخاطبة الود المصري طيلة عقود طويلة، وتطرق أبواب العون والمساعدة، هاهي الآن تستعرض عضلاتها السياسية أمام القاهرة، لتهدد أمنها المائي، وتخنق اقتصادها، بدعم وتأييد من ” صاحب الفضل ” عليها، و ” ولي نعمتها ” الكيان الصهيوني، الساعي إلى الضغط على القرار السياسي المصري بما يحقق مصالحه في قضية الصراع العربي – الإسرائيلي، فضلا عن تطويق وتحجيم المقاومة الفلسطينية، من خلال الضغط عليها، وسد كل أبواب الدعم المقدم لها…فهل تستجيب القاهرة لهذا الابتزاز الأثيوبي؟ وما هو رد الفعل حيال ما يقوم به الكيان الصهيوني إفريقيا؟

*كاتب وصحفي مصري، باحث ماجستير في الإعلام، عمل باحثًا سياسيًا ومستشارًا إعلاميًا بعدد من الصحف والمواقع الإخبارية والمراكز البحثية المصرية والعربية.

شاهد أيضاً

جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*

لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...