عام مضى وعام يأتي… هل فقدت الدولة العراقية مقوّماتها؟؟ (كتابة المفكر عبد الحسين شعبان)…

ساحة التحرير

عام مضى وعام يأتي

هل فقدت الدولة العراقية مقوّماتها؟ (كتابة المفكر عبد الحسين شعبان)…

عبد الحسين شعبان

لا أدري  كيف أتذكّر كل عام ونحن عند أيامه الأخيرة ديوان الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي ” الذي يأتي ولا يأتي”، وبقدر ما كان انتظارنا يطول وأحلامنا تؤجل إلى عام يأتي، لكن هذا الأخير لا يأتي، وهكذا تكون انتظاراتنا أقرب إلى انتظار غودو، وتدريجياً أصبح الحلم يبتعد، بل تكون بيننا وبينه مسافات شاسعة، إذْ ما أن نقترب منه، حتى يختفي لدرجة أننا لم نعد نتذكّره. هو طيف غامض ومبهم، وبعضه صار كابوساً شديد الوطأة علينا، حتى تكاد الأيام معه تضيع، فلم نعد ندري متى يحلّ العام ومتى ينتهي، وكأن انتظارنا صار فراغاً أو مساحة بلا ألوان أو فضاء بلا أضواء.

مرّ ثلاثة عشر عاماً ونيّف على انتهاء الدكتاتورية الفردية التي حكمت العراق بالقوة والتسلّط والواحدية والإطلاقية، لكن الاحتلال الأمريكي الذي أعقبها لم يطح بها فحسب، بل أطاح بالدولة ومؤسساتها ودواونيتها ومرافقها الحيوية  واستهدف عقولها وكوادرها العلمية والأكاديمية وأجهزة أمنها وحلّ جيشها، وتركها عرضة للفوضى والطائفية والإرهاب والعنف والفساد والتدخّل الخارجي. كلّما يأتي عام جديد نقول عسى أن يعيد للدولة بعض مقوّماتها، على الرغم من الإعلان عن مشاريع كبرى، تتضح في غالب الأحيان، إنها حسب الاصطلاح العراقي “فضائية” مثل الموظفين الفضائيين الذين يستلمون رواتباً وليس لهم وجود فعلي، بل هناك من يقبض عنهم بالنيابة. وحتى المؤسسات التي أعيد بناؤها نخرها الفساد المالي والإداري بسرعة خارقة، وهذا الأخير هو الوجه الآخر للإرهاب، الذي أصبح مؤسسة بذاته، وأوقع في شباكه قوى وأحزاب وشخصيات، حين لفّها بشرنقة لا يمكنها الفكاك منها، لاسيّما بعد أن تورّطت، سواء بالتعامل مع الاحتلال أو بالارتكابات والانتهاكات، أو بأعمال عنف وردود فعل مضادة وهكذا.

والدولة لكي تكون دولة حقيقية، عليها أن تؤمّن الحدّ الأدنى من وظيفة الدولة ومقوّماتها على المستوى الداخلي، ونعني به حماية أرواح وممتلكات المواطنين، وحفظ الأمن والنظام العام، وإنْ عجزت عن ذلك فستكفّ عن كونها دولة، خصوصاً إذا فقدت هيبتها وتعدّدت مرجعياتها، وخصوصاً وحدانية فرض النظام من جانب أجهزة مختصة، وليس عبر جماعات مسلحة أو ميليشيات أو قوى غير نظامية، طائفية أو إثنية أو تحت أية مسمّيات.

ولكي تكون الدولة، دولة، لا بدّ من توفر أربعة مقوّمات أساسية فيها، الأول وجود شعب، وليس جماعات منقسمة ومتناحرة، والثاني وجود أرض، وهذه الأرض ينبغي حمايتها من أي تدخل خارجي وبسط السيادة عليها، فالسيادة هي المقوّم الثالث، أما المقوّم الرابع فهو وجود حكومة معترف بها، تحتكر السلاح وتنظم شؤون الأفراد بين بعضهم البعض وعلاقتهم بالدولة. وباستكمال هذه العناصر مع تأمين وظيفتي الدولة الأساسيتين المشار إليهما، نصبح أمام دولة حماية، وإذا حلمنا بدولة رعاية، فلا بدّ أن يتحقق ذلك  خلال مواطنة فاعلة تقوم على أركان أساسية هي الحرية والمساواة والشراكة والعدالة، وخصوصاً العدالة الاجتماعية.

الدولة العراقية انتقلت من دولة شمولية صارمة إلى دولة رخوة وكيان هش، لاسيّما بعد الاحتلال، وخصوصاً في ظل نظام القسمة الطائفية- الإثنية والمحاصصة الوظيفية، واستمرت الدولة بملامحها الفاشلة، مع استمرار تعويم سيادتها وجرح كرامتها الوطنية، تلك التي تكرّست منذ فرض الحصار الدولي ونظام العقوبات على العراق إثر اجتياح قواته للكويت العام 1990 وإلى الآن.  بل إنها تدرّجت من دولة فاشلة إلى دولة غير موحدة وكيانات هشّة، خصوصاً بغياب مرجعية موحّدة على الرغم من وجود دستور وحكومة اتحادية وبرلمان وقضاء، لكنه من الناحية الفعلية، فإن مقوّماتها ضعُفت إلى حدود كبيرة.

انقضى العام الماضي وسط ذهول كبير، فداعش استمرّت في وجودها الفعلي، سواء في الموصل أو في مناطق واسعة من غرب العراق وشماله، وعلاقة السلطة الاتحادية بالإقليم لا تزال متعثّرة بسبب النفط أو الميزانية وتعطيل دفع استحقاقات الإقليم، مقابل اتهام بعدم دفعه ما عليه إلى الحكومة الاتحادية، فضلاً عن اختلاف المواقف بشأن الاجتياح التركي للأراضي العراقية.

وبتعويم السيادة العراقية انفتحت شهيّة القوى الإقليمية وزاد نهمها بعد الاحتلال. يكفي أن نقول إن العام المنصرم (2015) شهد حدثين خطرين لانتهاك سيادة العراق على أرضه وحدوده، الأول يتعلّق بعبور عشرات الآلاف من الزوار الإيرانيين الحدود الإيرانية – العراقية لمناسبة (زيارة الأربعين – وهي مناسبة شيعية أو يحتفل بها الشيعة بشكل خاص) ولم تستطع الحكومة العراقية منعهم، وقد اجتازوا الحدود عنوة وعبروها من منطقة زرباطية (محافظة واسط – الكوت) وتوجهوا إلى كربلاء، واكتفت الحكومة العراقية بتحميل الجانب الإيراني المسؤولية، لمثل هذا الخرق، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال كما يقال.

كيف للمواطن العراقي أن يثق بحكومة من هذا النوع، تكون عاجزة أمام عبور عشرات الآلاف من الزوار الحدود العراقية، مقابل منعها وصول أبناء الأنبار الهاربين من تنظيم داعش إلى بغداد ومناطق أخرى، بل واحتجازهم عند مشارفها وطلب كفلاء لهم خوفاً من احتمال تسلّل بعض أنصار داعش، في حين يمرّ عشرات الآلاف وينتقلون ويتجولون في المدن العراقية، وهم لا يحملون سمة دخول، بل ودخلوا الأراضي العراقية بصورة غير قانونية.والثاني اجتياح القوات التركية الأراضي العراقية، بحدود 30 كم باتجاه منطقة بعشيقة شمالي محافظة الموصل التي يحتلها تنظيم داعش منذ 10 حزيران (يونيو) 2014  وحتى الآن، ولم تستطع الحكومة العراقية أن تفعل شيئاً، بعد أن عبرت الحدود نحو 25 دبابة وألف جندي زاعمة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية وتدريب القوات العراقية البيشمركة وملاحقة حزب العمال الكردستاني PKK.

حتى الآن تصرّ تركيا على عدم الانسحاب، وتزعم أنها تدخل الأراضي العراقية بموجب اتفاقية أمنية مع بغداد، لكن هذه الأخيرة تنفي ذلك، وعلى افتراض استناد تركيا إلى اتفاقية العام 2014 الأمنية أو محاضر اجتماعات سابقة، فإن تركيا عندما دخلت الأراضي العراقية لم تقم بالتنسيق والتعاون مع بغداد أو بطلب منها، وهو ما دفع الحكومة العراقية للتقدّم بشكوى لمجلس الأمن ومطالبته بالضغط على تركيا لانسحاب قواتها من الأراضي العراقية .

وإذا كان العام 2014 هو عام احتلال داعش والعام 2015 هو عام التدخل الإقليمي التركي والإيراني، فإنني أعتقد إن العام الجديد 2016 سيعيد إلى طاولة البحث  مشروع جو بايدن لعام 2007 والذي وافق عليه الكونغرس الأمريكي، خصوصاً وقد جاء متزامناً مع التطهير الطائفي والمذهبي، الذي أعقب تفجير مرقدي الإمامين حسن العسكري وعلي الهادي في العام 2006.

مشروع بايدن سيكون حاضراً بقوة أكبر، من خلال وصفة الإقليم السنّي التي تم الترويج لها تحت عناوين ” الفيدراليات”، وهي بمفهوم بايدن أبعد من ذلك حيث تصل إلى وضع نقاط تفتيش وإصدار هوّيات هي أقرب إلى باسبورات لاحقاً، وبناء قوى مسلحة لحماية حدود الأقاليم، مع فواصل، وتشكيل إدارات تكاد تكون مستقلة، وربما ستكون قوات الحرس الوطني التي يقابلها قوات الحشد الشعبي والبيشمركة، هي نواتاة لجيوش مصغّرة تحمي الأقاليم، وسوف لا يكون بمستطاع الجيش الوطني تحريك أية قطعة عسكرية أو نقل أي ضابط أو حتى جندي من موقع إلى آخر، طالما كان هذا مرتبطاً بإدارة أحد الأقاليم، والدستور الدائم يمنح مثل هذا الامتياز للأقاليم وليس للسلطة الاتحادية، على خلاف الفيدراليات المعروفة في العالم، وحتى لو تعارض الدستور أو القانون الاتحادي مع دستور وقوانين الأقاليم، فالأول يخضع للثاني وليس العكس.

إن مشروع بايدن بصيغته القديمة ( ثلاث فيدراليات موسّعة أقرب إلى مستقلة أو منفصلة) أو بطبعته الجديدة، الإقليم السني الذي انعقدت بخصوصه مؤتمرات واجتماعات، ولقي دعماً إقليمياً تركياً وخليجياً، وكذلك تأييداً وحماسة من جانب واشنطن، التي تصرّ على إقامة الحرس الوطني وتسليح رؤوساء عشائر مناطق شمال العراق وغربه، لكي يدافعوا عن مناطقهم، إضافة إلى دعم مالي، يعني فيما يعنيه التهيئة لإقامة كيانية خاصة ما بعد داعش. فداعش إن آجلا أم عاجلاً صائرة إلى زوال، لأنها ضد منطق التاريخ وضد تطور الحياة وضد العقل والإنسان، ولكن الخشية على العراق هو ما بعد داعش.

إن امتلاك السلاح والمال والنفوذ ودعم أطراف دولية وإقليمية للسنّية السياسية كما تريدها لمواجهة الشيعية السياسية في الحكم المدعومة إيرانياً، سيكون عامل انفصال فعلي بغض النظر عن النوايا، حتى وإن بقيت صيغة الدولة العراقية، على ما عليه، لكنها من الناحية الفعلية ستكون غير قادرة على بسط سلطانها على الأقاليم التي من حقها إقامة ممثليات لها في السفارات العراقية لمتابعة الشؤون الإنمائية والاجتماعية والثقافية (حسب الدستور)، وليس ذلك سوى دويلات داخل الدولة، وتدريجياً ستتوسّع هذه الصيغة لتصبح كياناً مستقلاً، مثلما هو إقليم كردستان من الناحية الفعلية.

وبغضّ النظر عن النظام الفيدرالي، وهو نظام متطوّر وناجح ومطبّق في أكثر من 30 بلداً، ويعيش تحت لوائه نحو 40   بالمئة من سكان المعمورة، فإن الفيدرالية العراقية حسب نصوصها المدوّنة في الدستور أوسع من جميع التجارب الفيدرالية في العالم، ومن الناحية العملية فإنها ستقود إن آجلاً أو عاجلاً إلى إقامة كيانات مستقلة.

وإذا كانت الفيدرالية الكردية قد قامت على أساس الاعتراف بحقوق الشعب الكردي في حق تقرير المصير، ولها ما يبرّرها، فإن الفيدراليات الأخرى ستكون ذات مسحة طائفية ومذهبية، وقد تقود إلى احترابات داخلية، بل وداخل كل كيان فيها، بسبب الصراع على مراكز النفوذ في السلطة والثروة، وبالطبع فمثل هذا الأمر سيزيد من تآكل الدولة العراقية ويفقدها ما تبقى من مقوّماتها المعروفة على الصُعد القانونية والسياسية، أو من الناحية العملية كما هو معروف في القانون الدولي.

هكذا عام مضى وهو محفوف بمخاطر وهواجس جدية، وعام يأتي وهو مصحوب بقلق  ومخاوف مشروعة ومتعاظمة، خصوصاً وقد نفد صبر الشعب، فاندلعت التظاهرات الاحتجاجية الشعبية ضد الفساد والمفسدين ومن أجل إصلاح حقيقي، ومطالبة رئيس الوزراء حيدر العبادي الشروع به فوراً، وإلاّ فإن معركة الزمن، ليست بالأعوام، بل بالأيام، وبالتأكيد فإن التلكؤ أو التردّد فيها، سوف لا يكون لصالح بقاء الدولة العراقية.

{ باحث ومفكر عربي

شاهد أيضاً

جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*

لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...