لا أحد براء من سبي الإيزيديات…!!! بقلم حازم الأمين

زيارة أهل جبل سنجار، أو الناجيات والناجين منهم، تدفع المرء إلى الشعور بأن ثمة ما لم يعد من الممكن إصلاحه. الخراب وصل إلى جوهر الأشياء بعد أن بدد هياكلها. الإيزيديات المحررات من سبي مسوخ العصر، معظمهن زوجات رجال قتلهم «داعش» حين غزا مناطقهم في ذلك الجبل البائس.

«أقدم على قتل رجالنا وعلى سبينا رجال من العشائر العربية المقيمة في جوارنا. قوات البيشمركة انسحبت من مناطقنا مفضلة العودة لحماية المناطق الكردستانية، فيما الحكومة الشيعية لم تشعر بواجب إرسال وحدات لكسر الحصار الذي ضربه داعش علينا». تُلخص جملة السيدة الإيزيدية المُحررة هذه، حال أقلية تخلت عنها الأكثريات والأقليات الكبرى في محنة العراق الأخيرة. والحال أن هذا القدر لطالما كان من نصيب الكثير من الضعفاء في إقليمنا. ألا تشبه لحظة التخلي العراقي (السني والكردي والشيعي) عن الإيزيديين في جبل سنجار لحظة التوافق اللبناني (السني والشيعي والماروني) على استهداف اللاجئيين السوريين في مخيمات عرسال.

ليس للضعيف من يحميه في إقليمنا. أقرب الناس إليه (الأكراد ثقافياً والعشائر السنية جغرافياً في حالة الإيزيديين) سيتركونه لمصيره. فلا ثقافة سوى ثقافة الغزوات، ولا تقليد سوى السبي. وهذا ليس بعيداً عما جرى للاجئين السوريين في عرسال، عندما تضامن لبنانيون مع جيشهم الذي مات معتقلون في سجونه.

لكن الخراب في بلاد الإيزيديين زاد جرعة هذه المرة. فقتل الرجال أمام أطفالهم، وسبي النساء مع بناتهن كانا فعلاً منهجياً له وظيفة محددة. سبعة آلاف سيدة سُبين، وآلاف من الرجال قتلوا. واليوم وبعد هزم «داعش» في قرى الإيزيديين في سنجار وابتعاده مئات الكيلومترات عنهم، ما زالت عودة الأحياء والمحررات غير ممكنة. الناس فقدوا ثقتهم بمنازلهم، وبقراهم، وتحديداً بجيرانهم. الأطفال صارت تمثل لهم بلادهم مشانق آبائهم، والنساء يشعرن أن البيوت لم تحمهم من أمراء الاغتصاب والسبي.

ثم أن العائدات والمحررات من السبي، ويبلغ عددهن نحو ثلاثة آلاف، عدن بحكايات لا يتسع صدر البلاد لسردها، ولا تجيز الأعراف تحولها ظلامة معلنة. على النساء أن يُبقين الحكايات في صدورهن إلى حين مغادرتهن إلى المهاجر البعيدة، التي باشرت دول كبرى عرضها عليهن هن وعائلاتهن.

ما جرى لا يمكن العودة عنه، ولا يمكن استيعاب تبعاته. الخراب الذي ألحقه تنظيم «داعش» لا يمكن مداواته. سيبقى علامة وصدعاً جوهرياً يشغل مستقبل هذه البلاد. لا ناجيَ منه، ولا أحد براء منه. الإيزيديون سيغادرون كلهم سنجار على رغم هزيمة «داعش» هناك، ومسيحيو سهل نينوى لن يعودوا على رغم تحرر قراهم ومدنهم فيه. ستكون الحرب المقبلة حرباً بين أكثريات، وهؤلاء سيعثرون على ضعفاء آخرين غير الإيزيديين والمسيحيين. ففي داخل كل أكثرية، ثمة أقلية يمكن الاستغناء عنها. إنهم ضعفاء الجماعة، وهؤلاء سيقدمون لـ «داعش» المستقبل.

تُلخص قصة الإيزيديين في جبل سنجار حكاية المنطقة مع أقلياتها وضعفائها، وتشرح على نحو مذهل كيف أنها طاردة لهم، وغير مؤمنة بضرورتهم. أكثريات ثلاث تواطأت على الإيزيديين. المسؤولية طبعاً تبقى متفاوتة. لكن ضعف الحساسية حيال الآخر وتركزها وتضخمها حيال النفس يؤشر إلى طبيعة بدائية، وإلى خلل ثقافي هائل. فليكن الخمسمئة ألف إيزيدي كبش فداء حربنا الأهلية طالما أن موتهم ليس عائقاً أمام طموحاتنا المذهبية والقومية. وليُبعث السبي من جديد طالما أن نساءنا لا تنطبق عليهن شروطه.

الإيزيديون السنجاريون يقولون أكثر من هذا الكلام. لكن أهم ما يقولونه هو أنهم لن يعودوا إلى قراهم وإن جمعيات ومنظمات دولية باشرت نقلهم إلى دول الهجرة. وثمة من ينتظر عودة أمه أو شقيقته من الرقة ليأخذها ويغادر، حاملاً معه حكايتها التي لا تتسع لها ثقافتنا وتقاليدنا.

ستغادر السيدات الإيزيديات المحررات إلى بلاد تتسع لحكاياتهن. هناك سيعيدن رواية ما جرى لهن، وسيجدن هناك من يذرف دموعاً ويعيد كتابة ما جرى. أما نحن فسنبقى هنا من دون إيزيديينا، وسنشابه أنفسنا أكثر، وسيأتي وقت لن نجد من نسبيه سوى أنفسنا.

شاهد أيضاً

جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*

لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...