… للأيّام المتبقّية قبل يوم الجمعة الحزينة جدّاً..!! بقلم حازم صاغيّة

قبل أيّام قليلة، استعرضت البلاغة نفسها في شيكاغو. باراك أوباما كان يودّع الأميركيّين والبيت الأبيض. بعد أيّام قليلة، يوم الجمعة تحديداً، تشهد واشنطن دي سي دخول دونالد ترامب بيتها الأبيض نفسه.

الرئيس الجديد قد ينام في السرير الذي نام فيه الرئيس السابق. لكنّ التشابه يقف عند هذا الحدّ. بدل البلاغة والمعاني النبيلة، تنضح عبارات ترامب بالسوقيّة. أخطاء إملائيّة وأخطاء في القواعد. تكرار مضجر وتناقض بين العبارة وأختها. كلمات لا تصير جُملاً إلاّ على «تويتر»، لُعبته المفضّلة، لكنْ حتّى على «تويتر»، لا تؤلّف كلماته جُملاً إلاّ بعد كثير من التسامح معها.

الرئيس الأمّيّ عرسه مأتم لملايين الأميركيّين الذين هم الأذكى والأعرف بين مواطنيهم. بعضهم يتظاهر. بعضهم يبكي. بعضهم يعوّل على عزله الذي قد تفضي إليه أخطاء يعجز عنها شخص واحد. استقصاءات الرأي العامّ بدأت تقول، منذ أسبوع، إنّه الأقلّ شعبيّة بين رؤساء أميركا.

ذاك الرجل سيحلّ في البيت الأبيض مصحوباً بقائمة من العناوين، هذه بعضها: رئاسة مطعون في شرعيّتها. خلط بين العائلة وقراباتها والسياسة وتعييناتها. خلط بين مصالحه التجاريّة ومصالح البلد. عداء للإعلام لا يستقيم مع الديموقراطيّة. علاقة دونيّة، قد تنحطّ إلى مستوى «العمالة»، بروسيا ورئيسها بوتين. فضائح جنسيّة في موسكو. حبّ معلن لحكّام طغاة. تفضيل لتعذيب السجناء. شراكة في البيزنس مع متّهمين بالتحايل على القانون. انشغال بـ «تويتر» وصلت طفليّته ونرجسيّته إلى التباهي على أرنولد شوارزينيغر (ما معناه: نسبة مشاهدي «ذي أبرانتيس» التلفزيونيّ كانت أكبر في عهدي ممّا أصبحت معك. لقد دمّرتُك). خلاف مع الصين ربّما كان سببه أنّ بكين لم تأذن لشبكة فنادقه بالعمل فيها. تهرّب من التصريح الضريبيّ سبق معركة الرئاسة. موقف متخلّف من الأقلّيّات وذوي الاحتياجات الخاصّة والنساء والإجهاض وتعدّد الممارسات الجنسيّة. عداء للتجارة وللهجرة. موقف أمّيّ من البيئة. بَرَمٌ بالاستماع إلى مساعديه حين يشرحون له المسائل المعقّدة. تصديع العلاقة مع أجهزة الدولة التي سيرأسها. تصديع العلاقة مع حلفاء أميركا التقليديّين. أعصاب نزقة لا سيطرة عليها. عجز عن التركيز…

إنّه مرآة أسوأ القيم وأسوأ الأذواق: خلطة من الشعبويّة وتمجيد القبح والابتذال. يحبّ «الأقوياء» و «الناجحين»: الجنرالات الذين مثّلهم في مناصبه العليا بنسبة فائضة. الرياضيّين (ربّما كان هذا الحبّ أحد مصادر عدائه للتأمين الصحّيّ. الرياضيّون لا يعانون صحّيّاً). إنّها النيتشويّة في تأويل مبتذل. ويحبّ أيضاً عارضات الأزياء اللواتي اختار إحداهنّ زوجة له. وطبعاً هو مولع بالمليونيريّين الذين ملأ بهم مناصبه العليا. إنّها العامّـيّة المنشدهة بالأريستوقراطيّة، أو بصورة متوهّمة عنها.

ترامب يملك طاقة مدهشة على تيئيسنا من النموذج. من الديموقراطيّة. من السياسة. من أميركا. من المدارس والكتب. إنّه هشاشة الحضارة والحداثة وقد تجسّدت في شخص.

نجم «تلفزيون الواقع» أقوى في دونالد ترامب من رئيس الجمهوريّة. إنّه أقوى بلا قياس. انحطاط الشعبويّة يتجسّد فيه: القائد الشعبويّ التقليديّ كان خطيباً، وقد يسمّي نفسه «قائداً لتحرّر وطنيّ». القائد الشعبويّ الذي هو ترامب صار ما صاره لأنّه، فضلاً عن ثرائه وصفقاته المشبوهة، نجم تلفزيونيّ ومستخدم للتواصل الاجتماعيّ ببذاءة وتفكّك لغويّ وتعبيريّ!

والحال أنّ الخيال الشرّير إذا أراد أن يصنع شخصاً على مثاله، لن يقوى على الإتيان بدونالد ترامب. الذين اختارهم ليكونوا فريقه قالوا في جلسات الاستماع إليهم، في الكونغرس، عكس ما كان يقوله عن روسيا و «الناتو» ووكالات الاستخبارات والتعذيب واستقبال المسلمين وعاصمة إسرائيل وحماية الشركاء الأوروبيّين في «الناتو». علّق ترامب: هذه آراؤهم الخاصّة! علّق المعلّقون: أيضاً لا يفهم معنى «فريق».

مناعة النظام ومناعة التقليد السياسيّ ستقفان عقبة في وجهه. هذا ما نمّت عنه شهادات فريقه نفسه. لكنْ، حتّى في هذه الحال، لن يكون الطريق آمناً وسالكاً، إذ التناقض والغموض سيّدا الموقف. «الملفّ الروسيّ» إذا تفاقم قبل الجمعة سيُضعفه كثيراً، مع أنّ من المستبعد أن يفضي إلى عزله.

شخص كهذا ماذا سيفعل، بدءاً بيوم الجمعة المقبل، ببلده، بالعالم، بنا؟ إنّها الجمعة الحزينة جدّاً.

شاهد أيضاً

جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*

لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...