حديث في المسكوت عنه… بقلم زيد الحلي..

2235413_mustanseriya in 1970s2

حديث في المسكوت عنه… بقلم زيد الحلي

زيد الحلي

كانت تسير مع امها ، بغنج الصبا وعنفوان الشباب … الخجل يعتريها عند سماعها كلمة اعجاب من  يصادفهما من المعارف والاصدقاء .. هي لم تعد طفلة .. بل اصبحت امرأة ناطقة بالأنوثة ، وبقوة الشخصية وادراك الواقع الذي انضجته سنوات الوعي والدراسة … هي الان بنت 18 عاما .. يا له من عمر خطير لمن لم تتجذر سيرورته ويتمسك بعبق الاصالة .

قالت لوالدتها : ما لك يا امي ، أراك بعيدة عن وهج الحياة .. غير مكترثة بإطلالتك .. تخرجين الى الشارع ، وكأنك داخل البيت .. انت لست التي اعرفها … غادرت الربيع ، وانت في قمة ربيعك .. هل لأنني اصبحتُ فتاة بعمر لافت للأخرين … واخذت صبابتي من ألقك المعهود  .. لقد تعلمت منك يا اماه ان الاقبال على الحياة ، اعظم الحريات واقدس الامنيات .. فأجابتها امها : لا ابنتي … لكن الزمن الذي نعيش ، غير الزمن الذي كنا نعيشه .. كان الفرح الطفولي والشبابي يلازمنا ، ويمازحنا ، ويدغدغنا في كل لحظة ، واليوم نعيش لحظات الخوف  من مجهول شرس ، ومن نظرات لا ترحم ، نابعة من عمى البصر والبصيرة ..

لم تفهم الفتاة بلاغة كلام امها ، فقالت مستفهمة : لكن الزمن يتقدم يا والدتي ؟

اجابتها امها : نعم ، لكن يا ابنتي ، ظاهر الاشياء لا يعكس باطنها وجوهرها … وحينما نعود الى البيت ، سأريك شواهد من كلامي .. وفي العودة ، واثناء المساء ، سحبت الام بحضور والدها ألبوما من الصور … تذكرت الفتاة ان صور هذا الالبوم شاهدتها اكثر من مرة ، لكنها لم تدرك معاني تلك الصور … شاهدت وانعمت النظر في صور والدتها في ايام الكلية وفي اجواء النقاء الانساني .. لمست الاخوة والحرية المتزنة من خلال الحفلات الجامعية ، والاختلاط المجتمعي الراقي بين الطلبة والطالبات  وحفلات التخرج ، ومناسبات انتخاب ملكة جمال الكليات ، وشاهدت حفلات نوادي المنصور والمهندسين والهندية والعلوية ، وغيرها من النوادي الاجتماعية ، والسفرات الى جزيرة ” ام الخنازير” على ضفاف نهر دجلة ، ومتنزهات ” قناة الجيش ” وبحيرة الحبانية ومدينتها السياحية الجميلة وبحيرة الثرثار ، وبحيرة ساوة في مدينة السماوة وبحيرة الرزازة في كربلاء ، ومنطقة الصدور في ديالى ، وملوية سامراء ، و شلالات نواعير حديثة ، ومنطقة المدائن، حيث طاق كسر ،وحدائق ” بارك السعدون ” ببغداد ، وجزيرة ” السندباد ” في البصرة ، لاحظت الصبية  صور والدتها وابيها وهما يجلسان في كافيه اول مول شهده الشرق الاوسط ( اورزدي باك )  وفي مقصورات سينمات الخيام والنصر وغرناطة.. شاهدت الحبور والفرح في حدائق الامة داخل ساحة التحرير، ونافورات المياه في حدائق الاعظمية ، ولمست كيف تصفق امها بحرارة وهي تجلس في حفل يحييه عبد الحليم حافظ في بغداد … انعمت بصور التقطتها عدسة ابيها لمقهى ” البرازيلية” المزودة بمكائن القهوة الجاهزة (ألأكسبريس) يوم لم تعرفها القاهرة ودبي ،  ولشوارع : الرشيد والسعدون والكرادة  ايام البهاء والحبور ، وخلوها من الباعة الجوالين ، والمتسولين .. انتبهت الى اناقة الرجال والنساء والشباب ، واحترامهم لمناطق العبور في الشوارع ، وخلو الساحات  والتقاطعات من التجاوزات ، ونظافة حافلات نقل الركاب ،  وغير ذلك من مظاهر المدنية المفتقدة !

دخل الاب على الخط ، محدثا ابنته .. كل الذي شاهدتيه من صور الدعة التي كنا نعيش في سنوات ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم ، كان بسبب الحرية المجتمعية وعلاقات صلة الدم والجيرة واحترام الاخرين … ليس مثل واقع حالنا الآن حيث يرفع الانسان المنفلت  شعار الحرية الشخصية ضد جميع الإجراءات الأخلاقية والأعراف المرعية … كانت الحرية في زماننا هي  حق الفرد في أن يفعل كل ما لا يضر بالآخرين والحرية تنتهي حيث تبدأ حقوق الآخرين ، كما ان الحرية هي قرين الحق، فهما متلازمان ، وكنا نتنازل عن جزء من حقوقنا الشخصية في مقابل عدم حرمان الآخرين من حقوقهم ، لكن هذا التنازل الجزئي ، ليس تنازلًا بلا مقابل، بل من أجل ألا يفاجأ المرء في يوم من الأيام بأن الآخرين اعتدوا على حريته الشخصية، فهذا هو ثمن الحياة الاجتماعية المشتركة  في ايامنا تلك .

سكتت الفتاة ..

ثم ، طبعت قبلة على جبينيّ امها وابيها ..وقالت : ما احلى ايامكما ، وما اتعس ايامنا !

شاهد أيضاً

جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*

لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...