الموسم الكروي… بقلم خالد القشطيني

مررنا بموسم كرة القدم في بحر الأيام الأخيرة، حيث ينشغل الجمهور في كل مكان بأخبارها. يسارع الرجال إلى لبس أحذيتهم للانطلاق وراء الكرة حيثما وجدوها على أرض تستوعبها. وهو موسم ذكريات لأيام كنا نلعب فيها بحرِّية. لا أحد يحاسبنا ويعطينا سيارة «مرسيدس» عندما كنا نفوز، أو لكمات وشتائم عندما نخسر.
أثارت لعبة فرنسا وكرواتيا قبل أسابيع ذكرياتي عن أيام الخير؛ أيام الشباب. لقد حسبت نفسي قد نسيتُها تماماً. فإذا بها حية أمامي. وامتد خط التذكر إلى أيام المدرسة الابتدائية عندما كنا نلعب الكرة في بغداد بالدشاديش. وفي أكثر الأحيان حفاة من دون أحذية أيضاً. كنتُ أنا ألعب مع فريق العيواضية ضد فريق الكرنتينة. وغالباً ما أثارت الأحذية نزاعات مستمرَّة يمكن اعتبارها صورة من صور التنازع الطبقي؛ إذ دأب أبناء الكرنتينة الفقراء الذين كانوا في الغالب حفاة، على الاحتجاج علينا، لأن أكثرنا كانوا يلبسون أحذية جلدية ثقيلة. كانوا يقولون لنا إننا نكبس على أقدامهم الحافية بأحذيتنا فنكسر عظامهم ونغلبهم، في نزاع غير متكافئ. كانوا يقولون لنا: «إذا (أنتو) تعتبرون أنفسكم شطاراً وأبطالاً عالميين، فانزعوا أحذيتكم وتسابقوا معنا».

وبينما جرى هذا النزاع الآيديولوجي بين الفريقين، دأب فريقنا على «المهاوشة» معي. وذلك أنني كنتُ ألعب لعباً بارعاً بقدمي، ولكنني كنتُ أرفض استعمال رأسي في نطح الكرة، لاعتقادي بأن نطح الكرة بالرأس يؤثِّر على الدماغ ويفلطحه فيفقد ذكاءه. وعندئذ يرسب التلميذ في درس الحساب. وكان برهاني على ذلك درجاتي العالية التي كنتُ أحصل عليها في هذا الدرس. في حين أن زميلي عبد المعبود، الذي كان يلعب زاوية شمال في الفريق، كان يفشل دائماً في دروس الرياضيات. كنت أحبه كثيراً، ونصحتُهُ باستمرار: «يا أخي عبد المعبود لا تنطح الكرة برأسك. على الأقل امتنِع عن نطحها في أيام الامتحانات!».
الفكرة تثير ضحكنا الآن، ولكن الغريب أن ذلك الصبي الصغير – خادمكم أنا – كان على حق؛ فبعد كل هذه السنين قرأتُ أخيراً تقريراً طبياً يقول إن نطح الكرة يعرقل نمو الدماغ.
بيد أن زملائي في الفريق لم يصدقوا كلامي. وراحوا ينتقدون لعبي باستمرار ويقولون: «شلون تريد تصير لاعوب عالمي، وتلعب على كأس العالم في لندن وباريس وأنت ما ترضى أن تنطح الكرة برأسك!».


ولكنني لم ألتفتْ لكلامهم وواظبتُ على اللعب بقدمي فقط، والنجاح في كل دروس الرياضيات. في حين واصل زميلي عبد المعبود السقوط في درس الحساب. وانتهت المرحلة. وبقدر معلوماتي حتى الآن، لم يبعث مدرب الفريق العراقي إليَّ ولا إلى عبد المعبود أبداً. والحمد لله على ذلك، ونحن في هذه الأيام العصيبة. فنحن كنا نلعب في زمن خير. «إي نعم»، وأيام خير وراحت.

شاهد أيضاً

جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*

لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...