محللون بلا تحليل … بقلم محسن عبود كشكول (عن جريدة الزمان)

أفرزت مرحلة التغيير في العراق تعدد المنابر الاعلامية وتحديدا الفضائيات, وبهدف معالجة المضامين بنوع من التحليل؛ تشرك هذه الفضائيات من تسميهم بالمحللين السياسيين, وأحيانا تعطيه لقب الاستراتيجي أو الخبير الاستراتيجي, وهي ظاهرة تستحق الوقوف عندها وتأمل مجرياتها، ولا سيما أن هؤلاء  يساهمون بشكل أو بأخر في تعقيد المشهد السياسي عبر طروحات تنطوي على مغالطات كثيرة وغير موضوعية تؤدي إلى ارباك الرأي العام, وأكاد اجزم أن معظمهم لم يكتب حتى مقالا واحداً بالشؤون السياسية والاستراتيجية, بل ولم يتجشم عناء قراءة كتاب التحليل السياسي الحديث لروبرت دال, الذي يقدم لهم خبرة علمية مدعمة بنماذج تطبيقية يمكن عن طريقها الاطلاع على المفاهيم والافكار والأدوات الضرورية للتحليل السياسي, واستيعاب حقائق مهمة عن الفكر السياسي، كما أن البعض لم يكلف نفسه عناء قراءة أدبيات مهمة في العمل السياسي مثل علم الساسة و صنع القرار السياسي والديمقراطية والسلوك السياسي، والتقييم السياسي، والتي تعد مهمة جدا لمعرفة مواطن القوة والنفوذ وادراك حقائق عالم السياسة وصناعها.

إن هذه الظاهرة تؤشر الفوضى الاعلامية, وهي تتنافى مع مبادي المسؤولية الاجتماعية للعمل الاعلامي, لأنها تمنح فرصة الظهور الإعلامي لأصوات نشاز تتلاعب في العقول وتسهم في تأجيج العنف, وإثارة التشرذم بدوافع تسويق الطائفية وتزويقها كمنهج سياسي عام, وما نؤشره على البعض منهم هو التورط بالتحزب والتمادي أكثر في الدفاع عن الفساد والمفسدين, بتقديم مبررات يخجل النطق بها قادة الاحزاب الفاسدة, ولا يتورعون عن صب الزيت على نار الفتنة الطائفية وتنكى الجراحات التي قادت البلد إلى الإحتراب.

 لقد أفرز تعدد الفضائيات أيضا ظهور فريق ممن يعانى شهوة الظهور الإعلامي والشهرة، وهو ما يجعلهم يبحثون بصفة مستمرة عن فرص الظهور لاكتساب اعجاب الآخرين ومعرفتهم, حتي اصبحوا يسعون إليها ولو بجعل أنفسهم أضحوكة ومحل سخرية فيما يطرحون من آراء لا علاقة لها بالتحليل والسياسة, وهؤلاء يمارسون أفعال لمجرد أنها تلفت إليهم أنظار الصحافة والإعلام، وهو ما يدفعهم لارتكاب الأخطاء بصورة مستمرة، ولا يتورعوا عن التناقض بالقول بل إنهم دائما ما يعالجوا الخطأ بأخطاء، إلى حد أصبح فيه المشهد الاعلامي يعج بجيوش من الإعلاميين يقتحمون الشاشات الملتهبة بجهل وطائفية مقيتة لإثارة النعرات الطائفية والكراهية بين أبناء الوطن الواحد.

وثمة فريق آخر منهم يقدم طروحات تمثل أجندات خارجية ويكرس نفسه بوقاً وأجيرا للترويج لها, ويقومون بتسريب معلومات غير صحيحة لتحقيق اهداف استخباراتية لدول معادية, وأحيانا يقدم تحليلات تستفيد منها الجماعات الارهابية مثل مؤشرات عن تحركات القوات الأمنية وأولويات المعارك وخط سير القطعات.

إن التحليل السياسي هو الادراك الفكري العميق بجذور السياسة ومخرجاتها والفكر الاستراتيجي وهو أيضاً “الفهم الدقيق والعميق لمسار الأحداث السياسية وإدراك الدوافع المتعلقة بها والإلمام بجذور الاحداث ومخرجاتها والتنبؤ بالتطورات والنتائج المترتبة عليها ووضع التوصيات المعنية بالحدث “, وهو ما تحرص عليها القنوات الوطنية التي ينبغي لها أن تجعل الوطن والمواطن نصب عينيها في تلبية حقوقهم الاتصالية, وتعمل على توحيد الفكر والثقافة للمجتمع بنسيج اجتماعي واحد، لا مكان فيه لمن يسمون انفسهم ظلماً (خبراء) و(استراتيجيون)، ولا تجد صدى لرأي عاجل عبثي يثير البغضاء, ولا ترى مكاناً للصراخ والتقاذف بالشتائم وتبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة للأجنبي.

وفي الختام نتطلع إلى فريق من الخبراء في التحليل السياسي يسهم في إدارة الأزمات وليس اثارتها, ويعمل على معالجتها بشكل أكثر وعياً وعمقاً، وان يبتعد عن المعالجة العاطفية أو التي لا تستند إلى أدلة واضحة, والتزام الموضوعية بعيداً عن التهويل والتسيس للقضايا والمحاباة في ابداء الرأي, وأدعو كل من يتصدى الى مهمة التحليل إلى تكوين قاعدة بيانات منظمة ومعلومات دقيقة عن الحدث موضوع التحليل, والبحث عن فرص لربطه بالوقائع التاريخية, ومن الضروري الابتعاد عن الأحكام المسبقة، والبحث في الاحتمالات الممكنة للحدث، ودرجة القوة في هذه الاحتمالات ومدى تأثيرها، ومن ثم ترك المجال لتعدد وجهات النظر وقبول الرأي الأخر, وعدم الوقوف عند رأى واحد وإغلاق الباب أمام آراء الآخرين ومناقشة الآراء وتفنيدها، والتعود على احترام الرأي الآخر. وهذه الدعوة تنطلق من أهمية أن يشارك من يمتلك الخبرة في معالجة الاحداث وتحليلها؛ في صناعة القرار السياسي المتعلق برسم السياسات لإنقاذ البلاد من حالة الاستعصاء التي تمر بها العملية السياسية, وضرورة مشاركته في تشكيل وصياغة الرأي العام وممارسة التوعية اثناء الازمات الخطيرة, وأن يطرحوا في تحليلهم الحكمة التي تنقذ العباد من وجع السياسة ومآسيها، وسلوك القتلة والمفسدين, وفوق كل ذلك أن يجعل العراق, أمنه, وسيادته, وانسانه, واقتصاده, في حدقات عينيه.

شاهد أيضاً

جنرالات وأشقاء.. بقلم سمير عطا الله*

لم يتعلم الإنسان أنه في الإمكان الوصول إلى اتفاق من دون إشعال حرب في سبيل الوصول إلى السلام، يسخر هواة الدماء والجثث من غاندي ومانديلا. آلة الحرب تدرّ مالاً وأوسمة وجاهاً. ويذهب الملايين إلى النسيان، كما هي عادة البشر منذ الأزل...